منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وصعود الدور القيادي للدين في الجمهورية التي أضافت إلى نفسها وصف “الإسلامية- الشيعية”، لم تكن مسألة التطور السياسي للمجموعات العرقية والدينية في طهران تأخذ هذا القدر من الاختلاف داخلياً، ليعكس مبدأ “تصدير الثورة” خطورة في علاقات إيران خارجياً أيضاً.
فيرى البعض أن قيام الحرب العراقية الإيرانية كانت من نتائج تلك السياسة، وكذلك الحرب الأهلية الأفغانية، لكن التطور الأخطر يبرز حالياً في توسع التدخل الإيراني في عدد من دول المنطقة، أهمها سوريا واليمن والعراق ولبنان، وهو ما يعكس مخاطر في الداخل الإيراني المنقسم.
وعليه؛ فإن طموحات إيران لكي تكون قوة إقليمية فاعلة عبر توسيع نفوذها، تؤثر في بنية نظامها وفي سياساتها الداخلية والخارجية.
– قنبلة موقوتة
وتتواصل في إيران، هذه الأيام، تفاعلات التظاهرات التي خرج بها الأتراك الأذريون رفضاً لما اعتبروه إهانة وعنصرية بحقهم، احتجاجاً على “إهانة قناة “إيريب 2″، إثر عرضها مقطعاً يظهر فيه رجل من الأتراك الأذريين مع ابنه في فندق يتحدثان بالتركية الأذرية، وهما يشتكيان من رائحة الغرفة التي يقيمان فيها، غير أن موظف الاستقبال يرد عليهم بأن الرائحة منبعثة من فمهما، وأنهما ينظفان أسنانهما بفرشاة تنظيف مرحاض الفندق.
وقد أدى البرنامج إلى أزمة داخلية ما تزال تداعياتها تتفاعل في إيران، بعدما أثار غضب الأقلية التركية الأذرية ورأت فيه سلوكاً عنصرياً وسخرية من عاداتها.
وعبرت القيادية في المعارضة الإيرانية، مريم رجوي، عن دعمها “للمواطنين الأذريين المنتفضين في مختلف مناطق البلاد، لا سيما في محافظات أذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية وأردبيل وزنجان”.
وشهدت عدة مدن ومحافظات في إقليم أذربيجان بإيران، مواجهات واشتباكات بين قوة “الباسيج” والقوات الأمنية الإيرانية وشرطة مكافحة الشغب من جهة، وأتراك أذريين، من جهة أخرى، خرجوا في مسيرات للاحتجاج على ما بثته إحدى القنوات، واعتبروه عنصرية ضدهم.
ويدرج الدستور الإيراني الأقليات غير المسلمة فقط (وهم: الأرمن واليهود والزرادشتيون والآشوريون والكلدان)، في خانة الأقليات المعترف بها، في حين لا يتم تضمين المكونات العرقية المسلمة (غير الفارسية) في تلك الخانة، وهو ما يشكل مانعاً لحصولها على حقوقها الدستورية، في بلد يضم أكثر من 90 لغة ولهجة حيّة، وعلى رأس هذه اللغات “اللغة التركية”، التي تعد واسعة الانتشار في إيران، وهي منطوقة من قبل الشعوب التركية في إيران (وهم الأذريون والتركمان والقاشقاي وأتراك خراسان وأتراك الخليج والقازاق والأوزبك)، يليها اللغة العربية ثم الكردية ثم البلوشية.
– من هم الأذريون؟
يُقدر عدد أبناء المكون التركي الأذري في إيران بنحو 35 مليون نسمة، وهم جزء من عدد سكان إيران البالغ نحو 78.5 مليون نسمة، وهو ما يعني أن الأتراك الأذريين من أكبر الشرائح المكونة للمجتمع الإيراني.
وأقام الشعب التركي الأذري في 1945 حكومة تتمتع بحكم ذاتي بقيادة جعفر بيشهوري، لكن الجيش الشاهنشاهي قضى عليها بعد عام من إقامتها، وحرق الكتب التركية، وقتل وأعدم الآلاف من أبناء هذا الشعب.
وحاولت النخبة الدينية والعلمانية بعد قيام الثورة عام 1979 أن تلملم صفوف هذا الشعب مرة أخرى، لكن النظام الإيراني واجه هذا الأمر بالقوة، وقمع وسجن كل الشخصيات التي كانت تطالب بالحقوق القومية للشعب التركي الأذري.
وقد انتفض الشعب التركي الأذري في يونيو/حزيران 2006 احتجاجاً على التمييز والاضطهاد القومي، وذلك بعد عام من انتفاضة الشعب العربي الأحوازي، سقط خلال التظاهرات المليونية عشرات القتلى ومئات الجرحى.
وتعتقل إيران حالياً المئات من النشطاء الأتراك الأذريين في سجونها؛ بسبب مطالبتهم بحقوقهم اللغوية والثقافية والسياسية.
– الجمهورية الشيعية
في عام 1979 حدثت ثورة قلبت النظام العلماني في الإمبراطورية الفارسية إلى “جمهورية دينية شيعية” قائمة على أساس ولاية الفقيه، ونص الدستور الجديد في المادة الثانية عشرة أن “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”.
وأما المذاهب الإسلامية الأخرى، التي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي، فإنها تتمتع باحترام كامل، وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم المذهبية بحسب فقههم، وفق ما تقول طهران، في حين يكذب الواقع القول، إذ يتم التضييق على أتباع المذهب السني، حتى إن العاصمة طهران فيها مئات المعابد لليهود والبوذيين، في حين أنه لا يوجد مسجد واحد للسنة، بحسب ما يقول نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذا السياق أدانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها العالمي للعام 2005 ما يتعرض له السنة من اضطهاد في إيران، وجاء في الشق المتعلق بالأقليات ما نصه: “ما برح أبناء الأقليات العرقية والدينية في إيران عرضة للتمييز، بل وللاضطهاد”، وأشار التقرير إلى “معاناة طائفة البلوش، وهم أقلية أغلب أفرادها من السنة ويعيشون في إقليمي سيستان وبلوشستان الواقعين على حدود البلاد، من عدم تمثيلهم في الحكومة المحلية”.
وتقدم طهران المئات من الفقهاء والمحدثين والمؤرخين والمفسرين والعلماء الشيعة على السنة منذ سنوات، وهو ما وضع السنة في بؤرة اصطدام ومركز صراع، ومع أن نسبتهم ليست بالقليلة فإنهم يعانون من القمع الديني والسياسي والإبعاد عن توليهم مراكز حكومية.
وتتضارب المعلومات بشأن الحجم الحقيقي للسنة في إيران، فالإحصاءات الرسمية للدولة تقول إنهم يشكلون 10% من السكان، إلا أن مصادر السنة تؤكد أنهم يشكلون ثلث حجم السكان البالغ عددهم أكثر من 78 مليون نسمة، ومصادر مستقلة تقول إن السنة يشكلون من 15 إلى 20% من سكان إيران، مقسمين إلى 3 عرقيات رئيسة هي الأكراد والبلوش والتركمان، إلى جانب العرب في إقليم خوزستان، أما المسلمون السنة من العرق الفارسي فوجودهم نادر.
خارجياً، يقول الباحث الإيراني صادق زيبا: إن “الصحوة الشيعية لم تُفلح كعقيدة سياسية في استقطاب الشيعة الآخرين في المنطقة خارج إيران؛ لأن الشيعة خارج إيران لا يستحقون الدعم الإيراني إلا إذا كانوا معادين للولايات المتحدة، وإلا فإن النظام الإسلامي في طهران سيتجاهلهم”.
ويشكّل الشيعة في العالم باختلاف فرقهم ما بين 7.6% و13% كحد أقصى من مجموع المسلمين، ويتمركز أكثر من ثلث هؤلاء في إيران وحدها. وعليه، فإن إيران تشكّل مركز الجاذبية لهؤلاء، ليس على المستوى المذهبي فقط وإنما على المستوى السياسي أيضاً، على اعتبار أن السياسة والدين متمثلان في الولي الفقيه المرشد الأعلى.
ويرى الباحث الإيراني كيهان برزكار أن استخدام التشيع في السياسة الخارجية قديم، لكنه أصبح أكثر فاعلية بعد أزمة العراق عام 2003، حيث دخل التشيع في إنتاج السلطة والسياسة في الشرق الأوسط؛ وهو ما أدى إلى تقوية دور ونفوذ إيران، فعنصر التشيع أدى إلى تحويل العراق إلى دولة صديقة ومتحالفة مع إيران، وأعطى الحضور الفعال والمصيري في قضايا العراق ولبنان والشرق الأدنى بشكل عام على حد قوله.
وأظهر استطلاع أجراه معهد تيسيف في العالم العربي، ونشرت نتائجه في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، أن إيران تأتي على قمة هرم الدول التي يعتقد أنها تتبع سياسة طائفية إلى جانب كل من العراق وسوريا، وهو ما يعني فشلاً إيرانياً في استخدام هذا العنصر لمصلحتها.
خالد عمر
خليج أونلاين