يروي وزير خارجية سوريا الأسبق ونائب رئيس الجمهورية السورية عبد الحليم خدام، أنه في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 اتصل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد به باكراً وطلب منه أن يلاقيه في مطار دمشق لأن أنور السادات الرئيس المصري سيصل لمشاورات مهمة. وبالفعل تم هذا وكان السادات مضطرباً بعكس الأسد الذي بدا هادئاً ومستمعاً معظم الوقت. ويكمل خدام أن السادات قال، إن ما حققه الجيشان المصري والسوري في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لا يمكن إنجاز أكثر منه لأن المواجهة ستكون مع الولايات المتحدة، وتكلم عن ضخامة الجسر الجوي الذي أمر به الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وأقيم في مدة خمسة أيام. وقال السادات، إنه أقدم على مبادرة تحمّل فيها بمفرده جميع المخاطر، ولكنه وضع الإسرائيليين في زاوية لا يمكنهم الخروج منها وهو سيسترد سيناء. وبعد شرح مسهب للتخبط الذي يحصل في إسرائيل بنتيجة مبادرته، اقترح السادات على الأسد أن ينضم إليه مما سيحقق مزيداً من الاضطراب واللغط لدى العدو، وفي نهاية المطاف سيؤدي إلى استرجاع الجولان. وأكمل خدام، أن الأسد حدّق طويلاً في عيني السادات وبعد دقائق عدة من الصمت الرهيب انتظر فيها الجميع الرد، وقف الرئيس السوري وقال للسادات بازدراء اذهب وحدك إلى القدس، أنا سأخوض معركة الصمود والتصدي التي وحدها تعيد حقوق الفلسطينيين والعرب. وغادر مكان الاجتماع من دون مصافحة الرئيس المصري الذي توجّه إلى الطائرة بلا مرافقة وأدنى المراسم البروتوكولية.
بالنظر إلى النتائج بعد 45 عاماً من اجتماع دمشق المشؤوم، حققت مصر تحرير سيناء ولو كان انسحاب إسرائيل مشروطاً، وبموجب اتفاقية كامب ديفيد انتهت حالة الحرب مع إسرائيل؛ مما أدى إلى توفير الكثير من الطاقات المالية والبشرية التي توجهت نحو بناء الاقتصاد والإنسان المصري. وتجدر الإشارة إلى أن إنهاء حالة الحرب لم تؤدِ حتى يومنا هذا إلى التطبيع مع إسرائيل.
في المقابل، بقي الجولان السوري محتلاً من قِبل إسرائيل وقد تم الاعتراف بسيادتها على الهضبة من قِبل الولايات المتحدة في مارس (آذار) 2019، وقال دونالد ترمب الرئيس الأميركي السابق، إن الجولان جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل. وبقيت جبهة الجولان هادئة آمنة ومستقرة إلى يومنا هذا. ولم يؤد صمود وتصدي حافظ الأسد إلى استرجاع أي من حقوق الفلسطينيين، بل على العكس فلقد قمع الأسد وقتل وطارد الفلسطينيين بعد احتلال إسرائيل للبنان عام 1982. ولم يسعَ طوال فترة حكمه إلا لتمكين قبضته على شعبه قمعاً وتنكيلاً باسم الصمود والتصدي، وبعد توريثه لابنه بشار لم يدم النظام طويلاً وانتهى إلى ما هو عليه اليوم.
يمكن للمرء أن يقول، إن هذه أحداث ولّت ولا نفع من نبشها وإعادة سردها. هذا صحيح، ولكن ما يحصل في المنطقة يؤشر إلى أن نهج حافظ الأسد لا يزال سائداً وإنْ عبر أفرقاء آخرين هم أيضاً من يدعون إلى الصمود والتصدي أو من يسمّون أنفسهم الممانعين.
اندلاع الحرب السورية وفقدان النظام قبضته الحديدية على الدولة، لم يمنع استمرار نهج حافظ الأسد، ولكن بإدارة وتوجيه من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالمباشر وعبر الأذرع وأولها «حزب الله». وما على المرء سوى النظر فيما آلت إليه أوضاع الدول التي سيطر عليها الممانعون ليعلم كم سيئ كان فكر حافظ الأسد، ليس فقط لإضاعة الفرص أمام حياة كريمة مستقرة لشعبه، بل أخطر بكثير، وهو تمهيد الطريق لدخول الإيراني والسيطرة من بعده. تقول مصادر استخباراتية غربية، إن جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري لم تحصل بقرار سوري، بل بتخطيط إيراني على أعلى المستويات، شارك فيها بعض الضباط السوريين من دون معرفة قياداتهم. وقد أُلصقت التهمة ببشار الأسد الذي تلبسها بسبب تصرفاته المشينة والعدائية للحريري، وقد حققت إيران مرادها بعملية الاغتيال؛ إذ انسحبت القوات السورية من لبنان إلى غير رجعة وحلّ مكانها سيطرة كاملة لذراعها «حزب الله» الذي حقق لإيران حلم العودة إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
ويعلم الإيراني أن ما يهدد وجوده على المتوسط هو الكيان اللبناني المتنوع الليبيرالي المنفتح الذي يتمتع بمحبة الدول الأخرى ولديه نظام اقتصادي ومالي ناجح بفضل المبادرة الفردية الحرة. في هكذا كيان سينبري الكثيرون للدفاع عنه والقتال من أجل استمراره؛ لهذا أدرك الإيراني أنه لا بد من تدمير مقومات هذا الكيان من الداخل لكي يعمّ اليأس بين أهله وتتم السيطرة عليه بإحكام. من هنا، فإن إخفاقات ميشال عون الرئيس اللبناني المدمرة كما في السابق، والتي تساهم في الوصول إلى هدم مؤسسات الدولة بكل نواحيها وعزل البلد عن محيطه، هو أمر مناسب جداً لإيران، كما أن إفلاس القطاع المصرفي في حملة منظمة ممنهجة هو خطوة على الطريق الصحيحة لهدم أحد أسس الكيان لقيام فوضى ضياع وتخبط. كما أنه لا مانع من التنازل عن حقوق لبنان في الغاز والنفط وإن كانت لصالح إسرائيل، فالثروات التي ممكن أن يربحها البلد الصغير بإمكانها أن تبعث الانتعاش للكيان الصغير، وهذا لا يفيد الهدف الفارسي.
هذا البلد الصغير الذي اسمه لبنان ويرقص على العلن وليس في الخفاء تابع هذا الأسبوع ما اهتزت له إيران.
في الأيام الأخيرة، اندلعت احتجاجات في جميع أنحاء إيران تندد بموت الشابة مهسا أميني، على يد شرطة الآداب. (إذا كنت تشاهد تلفزيون «المنار» أو «الميادين» فلا ذكر لحادثة قتل الشابة أو الاحتجاجات). متحدون في غضبهم من وحشية الشرطة والقواعد الأخلاقية القاتلة وغير الأخلاقية، يطالب الإيرانيون بالحرية ووضع حد للقمع الحكومي:
الاحتجاجات مدهشة في نطاقها وكذلك شجاعة المتظاهرين. العديد من النساء خلعن الحجاب احتجاجاً على قانون الحجاب الإلزامي، كما انضمت إلى الاحتجاجات العديد من النساء المحجبات، وقد شعرن بالاشمئزاز من استخدام الإسلام والدين كسلاح لمعاقبة النساء الأخريات.
من أكثر الترانيم التي استخدمت:
زان، زنديجي، آزادي (المرأة، الحياة، الحرية)، مشيرة إلى المكانة المركزية للمرأة في القضية والمظاهرات نفسها.
وفي شعار أيقوني آخر هتف المتظاهرون «يسقط الظالم سواء كان شاهاً أو إماماً».
وهنا يدينون كلاً من الديكتاتورية الإمبراطورية البهلوية قبل عام 1979 وكذلك الجمهورية الإسلامية بعد عام 1979، رافضين ثنائية السياسة الإيرانية.
تكتب إيرانية مقيمة في أميركا:
اغفري لي يا مهسا! قاتلك في مدينتي نيويورك. لم نتمكن من إقناع حكومة الولايات المتحدة برفض منحه تأشيرة. ما زلنا لا نستطيع إقناع وسائل الإعلام هنا بالتوقف عن إعطاء منصة لقاتلنا. إنهم لا يفهمون كم نعاني عندما نرى قاتلنا على شاشة التلفزيون الأميركي وليس على الطريق.
ولمزيد من تحدي شعبها، نفت شرطة طهران أنباء سابقة عن إقالة رئيس شرطة الآداب بالمدينة بسبب مقتل مهسا أميني.
كما اعتلى الرئيس إبراهيم رئيسي المنصة في نيويورك هذا الأسبوع مع تعثر المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران بهدف إحياء الاتفاق النووي. ولا بد وصلت إليه أخبار وأشرطة فيديو عن نساء يخلعن حجابهن في جميع أنحاء إيران احتجاجاً على موت مهسا أميني في عهدة «شرطة الآداب». وقد اعتلت إحدى الشابات مكاناً عالياً في الساحة الرئيسية في كرمان للاحتجاج على وفاة مهسا أميني بعد اعتقالها من قِبل شرطة الآداب. نزعت حجابها وقصّت شعرها الطويل، فإذا كان بنظر هذا النظام عاراً، فهو بنظر الشابة شعر طويل سواء داخل الغرفة أو في الشارع. وكان الإيرانيون يصفقون بأيديهم ويهتفون «الموت للديكتاتور»، بينما قام رجال بتمزيق ملصقات مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني والمرشد الأعلى خامنئي في مبنى بلدية في ساري، عاصمة محافظة مازندران الشمالية… وكأن الاحتجاجات ضد شرطة الآداب مجرد ذريعة. الهدف الحقيقي هو النظام برمته!
في هذه الأثناء وقع حدثان ذكّرانا بحادثة السادات – الأسد. الأول انتقد الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله مقولة: لكم لبنانكم ولنا لبناننا، بعد أن شبع الناس من تجبرهم وتحكمهم بالدولة. نصر الله يعتبر الانضمام إلى محور طهران ودمشق حفظاً لكرامة اللبنانيين ويشكل توازن رعب لإسرائيل… لو تمعن نصر الله بجماعته وتصرفاتها لوقف إلى جانب القائلين موجهاً كلامه إلى جماعته وجماعة حركة «أمل» قائلاً: لكم لبنانكم ولنا لبناننا.
الآخر يؤكد أن الدائرة لم تغلق بعد، فقد هنأت طهران «حماس» على مصالحتها مع نظام الأسد الابن، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني: إن التقارب بين «حماس» والنظام السوري «يخدم مصالح شعوب المنطقة والشعب الفلسطيني المظلوم ويدعم مواقفه أمام الكيان الصهيوني، ويخدم السلم والاستقرار في المنطقة. نحن ندعم هذا التقارب ونراه إيجابياً».
من ناحية أخرى، أظهر مقطع فيديو، نشره «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، مجموعة من العناصر يرجّح أنهم من «حزب الله» اللبناني، يطلقون شعارات طائفية أمام الجامع الأموي في دمشق. ويعرض المقطع المصور شخصاً يعتلي سيارة ويلقي قصائد تمجّد رئيس النظام السوري بشار الأسد، والأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله.
وعلّق أحد مصادر «المرصد» في دمشق ساخراً من عناصر «حزب الله» قائلاً بأن «هذا المسجد الأموي وليس الأقصى».
ماذا تغير منذ ذلك اللقاء اليتيم بين السادات والأسد؟ اغتيل السادات لكن عادت سيناء ورحل الأسد وما زال الجولان مع إسرائيل وحلّ محلّ الأسد للتلاعب بالفلسطينيين: إيران ونصر الله وأتباعه وهؤلاء لهم لبنانهم ولنا لبناننا. لذلك؛ هناك أمل وحيد لهزيمة ما يتم التخطيط له، وهو التعلق بفكرة وروح لبنان الماضي الذي لم ينسَها الكثيرون ويخبرون أولادهم وأحفادهم عنها ليدافعوا عنها لتبقى، وعندها سيبقى لبناننا.
الشرق الأوسط