في العام 1936 ظهر رضا شاه بهلوي (توفي 1944) مع زوجته وابنتيه من دون حجاب، بمشهد فاجأ الجميع، فكان ذلك مناسبة لإعلان 8 يناير (كانون الثاني) يوماً لتحرير المرأة (فرح بهلوي: «مذكرات»)، وظل كذلك حتى انتصار الثورة وإعلان الجمهورية الإسلامية (11-2-1979)، ليعلن قانون فرض الحجاب، وتأسيس الميليشيا الدينية التي تفرضه بالقوة. لكن مقدمات ذلك المشهد بدأت بإعجاب رضا شاه بمصطفى كمال أتاتورك (توفي 1938) الذي جارى أوروبا، وهو مجاورها، بعد ظهور الدولة الوطنية التركية بديلاً عن السلطنة العثمانية.
بعد 40 عاماً، جاءت الثورة الإيرانية، فصدر قانون ارتداء الحجاب، ودعم بتشكيل «الشرطة الدينية». وكان «حزب الله» الإيراني الذي تشكل قبيل نجاح الثورة، تولى المهمة بفرض الحجاب على الإيرانيات وزائرات إيران كافة. جاء ذلك بعد أن قطعت إيران منذ 1936 شوطاً كبيراً في المدنيّة، وبما يخص النساء.
في 26-1-1963 احتج رجل دين – غير معروف حينها – يدعى روح الله خميني (توفي 1989) وليست له درجة اجتهاد «آية الله»، ضد تصويت النساء، واعتبره «ضد الدين»، وانطلقت احتجاجات في قمّ، مركز المرجعيّة والدراسة الدينية. كانت الموافقة على مشاركة النساء في التصويت العام، صدرت ضمن قرارات ما عرف بـ«الثورة البيضاء» التي أعلنها الشاه حينها. القرارات التي عارضها رجال الدين في زمن المعارضة، ثم تبنوها في زمن السلطة (رفسنجاني: «حياتي»). كان تصويت النساء خيراً على خميني أيضاً، فعندما تقررت محاكمته، وربما إعدامه، بسبب التهييج، منحه مراجع المذهب درجة الاجتهاد، وبينهم من قضى نحبه سجيناً في عهده مثل محمد كاظم شريعتمداري (توفي 1986)، وظهر على الشاشة يتلو توبته ويعلن طاعته لمن حماه من السجن أو الإعدام، الخميني (آية الله البرقعي: «سوانح الأيام». نهاوندي: «الخميني في فرنسا». فرح بهلوي: «مذكراتي»)، فالقانون الإيراني السابق لا يسمح بإعدام المجتهد أو المرجع. ذلك القانون الذي أصدرته وزارة محمد مصدق (1952 – 1953)، وألغي في زمن حكم «المجتهدين» بتشكيل محكمة خاصة برجال الدين، أي الذين يعارضون ولاية الفقيه. لكن بعد أن خبا لهيب الثورة وبردت المشاعر تجاهها، فالذين ولدوا في عام انتصارها، ومن سماهم آباؤهم «روح الله» تيمناً بالاسم الأول للخميني، ثاروا عليها، وقضية الحجاب في المقدمة. والمشكلة ليست الحجاب إنما فرضه، مع أن معارضته قضية قديمة، هاكم جزءاً منها.
من المعلوم، أن المرأة لا تتدخل في شرقنا، حتى فيما يخصها، لكن هناك من تجاوزت المحظور في زمن كانت المرأة تلتحف فيه بعباءتين ونقاب، مثل قرة العين القزوينية التي تذكر بثورة «أسبازيا» اليونانية بالغرب، عشيقة حاكم أثينا بركليس (461 – 429 قبل الميلاد). حاولت أسبازيا مزاحمة الرجال فأخرجت النساء من عزلتهن، وفتحت مدرسة لتعليمهن البلاغة والفلسفة. قيل جلس مستمعاً لخطبها الفيلسوف سقراط نفسه، لكن ذلك لم يعجب رجال المعبد فألصقوا بها تهمة الإلحاد، بعدم الخضوع لنواهي الدين، فشهد محاكمتها 1500 قاضٍ (وول ديورانت: «قصة الحضارة – الجزء السابع»). أما قرة العين القزوينية، أسبازيا العصر الحديث، فكانت أسوأ حظاً، فقد قتلت وحرق جثمانها وسحبت من شعرها وراء حصان، لأنها تجاوزت، والغرض السياسي في قتلها كان واضحاً.
وصلت قرة العين القزوينية، زرين تاج، العراق ملتحفة الشادور الإيراني، وبعد إقامتها مع زوجها، طالب العلم بكربلاء. تبنت «ذات التاج الذهبي»، وهذه ترجمة لقبها، أفكار الطائفة الشيخية الشيعية، ثم التحقت بالبابية لتكون حرفاً من (حروف حي) الثمانية عشر، وهو عدد حواريي الباب. واستبدلت تاج رزين بالشادور عباءة تسمح بكشف الوجه والكفين، وهي من أسرة دينية، وخاطبت الرجال وجهاً لوجه لا من خلف ستارة. ضاقت مدينة الكاظمية آنذاك بخطب صاحبة الشعر الأشقر في مجالس الرجال، على رغم أن طلاقة لسانها ورزانة عقلها لم تتركا مجالاً للفتنة بجمالها، فانتهت حبيسة بأمر من السلطات العثمانية في دار مفتي بغداد أبي الثناء الآلوسي (توفي 1854) الذي ناظرها وقدر علمها ومدحها لعفتها ومنطقها (الآلوسي: «غرائب الاغتراب ونزهة الألباب»)، ثم رُحّلت إلى إيران لتُقتَل وتُحرَق هناك.
كان سفور قرة العين ليس الأول في تاريخ الإسلام، وللعلم عندما نقول السفور في ذلك الوقت يعني كشف الوجه واليدين لا أكثر، فقد اشتهر أمر عائشة بنت طلحة بن عبيد الله (توفيت 101هـ)، وكانت جميلة جداً، وامتنعت من غطاء وجهها وكفيها، وهي ابنة الصحابي المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله (قتل 36هـ)، وجدها لأمها أم كلثوم الخليفة أبو بكر الصديق (توفي 13هـ)، وخالتها أم المؤمنين عائشة (توفيت 58هـ). فمن ثقة بنفسها قيل كانت «لا تستر وجهها من أحد»، ولما عاتبها زوجها مصعب بن الزبير (قتل 71 – 72هـ)، قالت إن «الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال، أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضلي عليهم، فما كنت أستره، والله ما فيّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد» (الأصفهاني: «كتاب الأغاني»، الصفدي: «الوافي بالوفيات»)، ثم تزوجت أحد أولاد علي بن أبي طالب.
لا أناقش قضية الحجاب. والأعراف تحكم الناس، لا تحتاج إلى قوانين وميليشيات تديرها، فالقوة مهما طال زمنها، لا تستطيع الصمود بوجه الزمن، ومعلوم أن العلم لا يقبل التشدد، وهذا ما أفتى به قديماً الفقيه والمحدث سفيان بن عتيق الثوري (توفي 161هـ)، حين قال: «إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشدد فيحسنه كل أحد» (ابن عبد البر: «مختصر جامع بيان العلم وفضله»)، وهذا ما عانته العراقيات. بعد تغول الجماعات المدعية تطبيق الفضيلة، اعتدي على طالبات ونساء في الطرقات، بل ظهرت واحدة من الميليشيات تتفاخر بقتل أكثر من 20 فتاة بمنطقة زيونة ببغداد، حتى صار قتل النساء ظاهرة.
يومها شاع الحديث عن «العباءة العراقية» وسطاً، إن لم تصحبها البوشية (البرقع). فبعد قرة العين وسفورها المحدود وصلت إلى بغداد غيرترود بيل البريطانية (توفيت 1926)، ومثلها لا تحتاج إلى ستارة تتحدث من خلفها لحاكم ووزراء ورجال دين. إلا أن سفورها الغربي لم يثر مشكلة، أولاً لأنها الحكومة، وثانياً أن دينها لا يأمر بغير حجاب الراهبات، وثالثاً أنها صاحبة علم وشخصية يمنعان الفضول في طرح سؤال حول سفورها، مع أن معركة دعاة السفور والمحافظين حول الحجاب كانت حاضرة في الأذهان في العشرينات (القاضي الفكيكي: «مقالات في الحجاب والسفور»)، ولم يمضِ عليها عقد من الزمن. لذا صار الحجاب قضية شخصية، فتركيا المجاورة تسير بهذا الاتجاه، وكذلك حاولت إيران ذلك، مثلما تقدم.
تغافلت إيران الزمن، وما يدور بجوارها، فمع قوة التقاليد والأعراف، لم تلجأ دول الجوار العربي إلى ترسيم الحجاب بقانون، إنما ظل يجري عرفاً من الأعراف، ولما أتت الظروف لطغيان الصحوة الدينية جعلت الأعراف الناس تتحكم وبالإكراه، لكن تم تفادي ذلك، وعاد العرف يفرض تأثيره من دون إجبار، أو هيئات دينية. غير أن إيران أخطأت خطأً كبيراً، بجعل ذلك قانوناً تنفذه ميليشيا، لأن رجل الدين أصبح حاكماً، وليس بين أدواته أنفع من فرض الحجاب، وتقييد نساء بالأسلمة لصالحه، فعندما بدأ حكمه وفرض قانونه، كانت الإيرانيات الآن طفلات، أو لم يولدن بعد، وهو القانون الذي حمل من يوم صدوره بذرة نقضه بصوت البنات والحفيدات، ثم فرض عليهن، وواجهن تنمر حراس الفضيلة عليهن.
لذا هددت مهسا أميني عرش الولي الفقيه. هددته بالسقوط، لأن انتزاع أي إشراقة انفتاح سيكون بداية لانهياره. فلم يعد فرض الحجاب لذاته من أولويات نظام ولاية الفقيه، ولا وجود الشرطة الدينية، بقدر ما أن فرض الحجاب ووجود الميليشيا الدينية الحافظة للفضيلة، حسب ما يظهره النظام، من أدوات وجود النظام نفسه. تصوروا أن الولي الفقيه نفسه («حارس الفضيلة» حسب معنى «الفضيلة» عنده) يصدر قانوناً يلغي به فرض الحجاب، ويحل الشرطة الدينية. ماذا يبقى له عند جمهوره؟ كذلك إذا ظهر لاغياً الميليشيات خارج إيران، وأعلن أنه ليست لديه على العراقيين ولا اللبنانيين ولاية، هل يبقى قائداً مسيطراً عند مؤيده؟ أقول سينتهي كل شيء. بهذا تورطت ولاية الفقيه في معاندة الزمن، فكان قتل أميني شرارة قد تطفأ ولكن إلى حين، ستقدح ثانية، فأميني مجرد عنوان، ونساء إيران كافة لا يردن معاندة الزمن من أجل ولاية مبنية على روايات، قال فلان وفلان.
قال الشاعر العراقي عبد الرحمن البناء (توفي 1955)، منتصراً للمرأة، في زمن ضجت الصحف البغدادية بالمعركة بين «السفوريين» و«الحجابيين»، على لسان فتاة: «ليتني متُ ولم أسمع بمَنْ – قتلوا الأوقات من أجلي عتابا – بين حجبي وسفوري اختلفوا – ولهتكي ملأوا الصُّحف سبابا» (محمد جواد الغبان: «المعارك الأدبية حول تحرير المرأة»). لكن كيف إذا صار حجابها قواماً للسلطة، وسفورها انهياراً لها؟
القدس العربي