فجرت الحرب الروسية الأوكرانية أسئلة مصيرية حول مآل النظام الدولى الراهن والقوى التى تغذى الحرب سواء كانت قوى عسكرية أو اقتصادية أو مالية، وما إذا كانت الحرب توطئة لنظام أحادى تترأسه الولايات المتحدة أم مقدمة لنظام تعددى، وقبل الحديث عن خبايا النظام الراهن ودينامياته وتحركاته التى تبدو أحيانًا غير رشيدة. وإن كانت بالنسبة للغرب عمومًا تعد رشيدة، علينا أن نذكر بعض المعطيات التى تعين على فهم ما يدور وما يمكن أن نصل إليه، فمن ناحية، نحن إزاء نظام دولى يتسم بالسيولة، فلا هو نظام أحادى (انتهى فى غضون الأزمة المالية الدولية 2008)، ولا هو نظام ثنائى (انهار بعد سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1991)، ولا هو تعددى حقيقى، حيث التنافس حاد بين القوى الرئيسية فيه ولا يوجد تنسيق بينها، ناهيك عن الاتفاق حول مستقبل العالم. ومن جانب آخر، فعلى الرغم من أن عوامل الانتقال إلى نظام دولى آخر تكاد تكون متوافرة إلا أن الصراع على قيادته حاد، وعدم الاتفاق على هويته واضح، وأهدافه تتسم بالغموض، وثالثًا؛ فإن التقدم التكنولوجى غير المسبوق، والذى تحتكره الصين والولايات المتحدة بالأساس قد كرس حالة الاحتقان الدولى، وعمق حالة الاستقطاب، فمن ناحية، تحل التكنولوجيا محل الهوية وتعيد ترتيب الأهداف العليا وتضرب اتجاه التعددية فى مقتل، يبدو أن العالم قد انقسم إلى عالم نووى أو ناد مغلق العضوية، وعالم غير نووى، وبذلك انتهى تقريبًا التقسيم التقليدى فى السياسة الدولية بين الشمال والجنوب، وتتسارع دول مثل، إيران إلى الالتحاق بالنادى النووى. كما أن قدرات الدول صارت تتحدد بمصدرين للقوة، الاقتصاد والقوة العسكرية دون سواهما على الرغم من أهمية اليابسة كأساس للجيوبوليتكس. من ثم، وفى إطار خبايا النظام الدولى، تسقط قوى وتبرز غيرها حينما تتكامل القوة الاقتصادية مع القوة العسكرية، فإن افترقا تغيرت موازين القوى بصورة تقود إلى عدم الاستقرار والصراع والحروب. والواقع أن مآل النظام الدولى، وربما البشرية كلها، مرهون بعدة خبايا غير ظاهرة، وإن كانت تداعياتها واضحة للعيان فى سلوك القوى الكبرى سواء الولايات المتحدة وأوروبا أو الصين وروسيا. هناك اتفاق قوى بين الولايات المتحدة وأوروبا على الدفاع المستميت عن الحضارة الغربية، والتى تشكل النظام الدولى منذ نشأة الدولة القومية فى 1648، فالأسس التى بنى عليها النظام الدولى اليوم تعود إلى تسويات الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من قيم الحرية والديمقراطية إلا أنها بنيت على ميراث من الاستغلال والاضطهاد والتمييز العنصرى ضد شعوب المستعمرات، من هنا وجدت عوامل موضوعية خاصة بالغرب اليوم وعوامل ذاتية تتعلق بدول وشعوب الجنوب تدفع إلى إحلال الحضارة الغربية بقيم ومعتقدات وتفاعلات مختلفة.
لم تجد الولايات المتحدة وأوروبا سبيلاً إلى استمرار حضارتهما ليس فقط بحمايتها من التهديدات، ولكن أيضًا بإضعاف وإنهاك وهزيمة القوى المحتملة التى يمكن أن تدفع إلى نظام دولى يحجب السيطرة الغربية. بهذا المعنى، تتحالف بشدة المؤسسات العسكرية والاقتصادية والمالية والإعلامية الغربية وتنسق مع أجهزة مخابراتها لإدارة هذا الصراع الحضارى الحتمي. ولما كان من المستبعد نشوب حرب مباشرةً بين الولايات المتحدة المستفيد الأكبر من هذا الوضع الراهن، وروسيا الساعية إلى خلق وضع دولى جديد، فقد لجأ الغرب إلى الحرب بالوكالة؛ حيث صدَّرَت أوكرانيا لحرب استنزاف طويلة المدى لإنهاك روسيا، العدو اللدود والخصم العنيد، وهكذا، فإن الغرب بدعمه العسكرى والمالى والنفسى غير المحدود لأوكرانيا إنما يعتبرها حصان طروادة الذى يمكن أن يفتح الطريق أمام الغرب لإضعاف روسيا. يضاف إلى ذلك أنه يبدو أن هناك تنسيقًا غير معلن بين روسيا والصين للسعى إلى إسقاط سيطرة الولايات المتحدة على النظام الدولى والقيم الغربية على الإنسانية، وهو تنسيق سابق على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ففى 2001، تم إنشاء منظمة شنغهاى للتعاون، والتى تقودها الصين وروسيا، والتى كانت اتفاقية أمنية من قبل، وتمت دعوة العديد من الدول إلى عضوية مشاركة أو أعضاء مراقبين، وفى 2009، أنشئت مجموعة البريكس، والتى تضم إلى جانب الصين وروسيا الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وشكلت منظمات مالية موازية لمجموعة البنك الدولى وصندوق النقد الدولي. هذا التنسيق المبطن والقوى يستهدف بالأساس قطع دابر الغرب وإقامة نظام دولى متحرر من السيطرة الغربية الأمريكية الراهنة. يضاف إلى ذلك إصرار أوروبا والولايات المتحدة على بث الروح فى المنظمات الدولية وليدة الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها الأمم المتحدة التى تخطاها الزمن وأدت التحولات الديمقراطية والتكنولوجية والبيئية إلى اضمحلال دورها إلا أن استبدال تلك المنظمات يعنى مباشرةً نهاية النفوذ الغربى وانهيار الأسس الغربية لترتيبات الحرب الباردة. إن تلك الخبايا لا تعنى بالضرورة وجود مؤامرة دولية، ولكنها تعكس أمريْن جلييْن، الأول: التحالف العميق والمستدام بين مجموعة محدودة من أقوى رجال الأعمال والمال فى الغرب مع المؤسسات العسكرية والأمنية ومراكز البحث العلمى الكبرى لاستمرار سيطرة الحضارة الغربية لأطول فترة ممكنة، والتصميم على منع روسيا والصين من البروز كقوى عظمى فى النظام الدولى حتى وإن وصل الأمر إلى حرب نووية.
والثاني أن تلك الخبايا وما ينجم عنها تضع تحديات معقدة أمام الدول الوسطى والمركزية فى النظم الإقليمية الفرعية مثل مصر والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل وغيرها، وهى تحديات تستلزم إعادة الروح إلى مجموعة عدم الانحياز ليس فقط لتأكيد الحياد بين القوى الكبرى المتصارعة ولكن أيضًا لتشكيل كتلة مؤثرة على النظام الدولى قيد التشكيل.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الأهرام