أدى استخدام روسيا لطائرات “الدرون” الإيرانية في استهداف قوات عسكرية ومحطات الطاقة الأوكرانية إلى فتح طريق جديد يمكن لإيران من خلاله مواجهة الأسلحة التي تقدمها الولايات المتحدة بشكل مباشر إلى كييف، فضلاً عن محاولة تقويض نفوذ الولايات المتحدة وحلف “الناتو” في أوراسيا، حيث يمكن للطائرات الإيرانية المسيرة أن توفر لموسكو رداً فعالاً على الأسلحة الأميركية التي مكنت أوكرانيا في الأسابيع الأخيرة من استعادة جزء من الأراضي التي خسرتها وأرهقت القوات الروسية، فما البدائل التي يمكن لواشنطن أن تستخدمها في مواجهة هذا التحدي الإيراني؟
المستفيد الأكبر
حتى الآن لم تحقق أي من روسيا أو أوكرانيا أهداف سياستهما الخارجية وأمنهما القومي من خلال الحرب الدائرة منذ تسعة أشهر، لكن هناك دولة واحدة فعلت ذلك خلال الأسابيع الأخيرة فقط هي إيران حسبما يقول أرون بيلكنغتون، محلل القوات الجوية الأميركية في شؤون الشرق الأوسط، إذ كان ذلك واضحاً بشكل صارخ في صباح يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، عندما استخدمت روسيا طائرات مسيرة حربية إيرانية الصنع في تدمير أهداف مدنية في العاصمة الأوكرانية كييف، لإلحاق أضرار بمقر شركة الطاقة الوطنية الأوكرانية، كما قتلت الطائرات أربعة مدنيين بينهم سيدة حامل في شهرها السادس.
وفي الوقت الذي تواجه فيه إيران احتجاجات شعبية متزايدة ضد نظام حكمها الاستبدادي، أتاحت خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام الطائرات المسيرة الإيرانية لطهران إحراز تقدم في تعزيز مصالحها حسب تصور قيادتها، الأمر المتمثل في مواجهة أميركا في الشرق الأوسط وحول العالم، وإضعاف النفوذ السياسي الأميركي.
مواجهة أميركا في أي مكان
منذ الثورة الإسلامية عام 1979، اعتقد قادة إيران أن الولايات المتحدة تخطط باستمرار للإطاحة بحكومتهم، ونظروا إلى القادة في واشنطن على أنهم أكبر تهديد وأهم عقبة أمام تعزيز المصالح الوطنية الإيرانية في تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وفي الحصول على الشرعية الدولية، ودعم السلطة والنفوذ الإيرانيَين، وأدى العداء المفتوح المستمر بين البلدين، وعقود من التعزيزات العسكرية الأميركية على مقربة شديدة من إيران، إلى إثارة قلق القادة في طهران بشكل كبير، ومن ثم محاولة إجبار الجيش الأميركي على الخروج من المنطقة وتقليل النفوذ السياسي الأميركي هناك.
وتقاوم إيران النفوذ الأميركي من خلال الحفاظ على شراكات مع مجموعة متنوعة من الميليشيات وكذلك الحكومات التي يوحدها مع طهران العداء للولايات المتحدة، حيث ترعى طهران شبكة من الجماعات المسلحة الشريكة والوكيلة، التي تتوافق تفضيلاتها السياسية وطموحاتها مع الأهداف الإيرانية، من خلال توفير الأسلحة والتدريب والأموال والتوجيه، ومن بين المستفيدين “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” والمليشيات العراقية الصديقة والمتمردين الحوثيين في اليمن المعروفين باسم جماعة “أنصار الله”.
ومن خلال هذه الميليشيات وأذرعها السياسية، تمد إيران نفوذها وتعمل على تشكيل حكومات أو نظم صديقة لإيران في دول مثل لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، ما يهدد القوات الأميركية ويعادي الحكومات المتحالفة مع الغرب في الشرق الأوسط، وعلاوةً على ذلك تتعاون طهران مع شركائها الاستراتيجيين في سوريا وفنزويلا، وكوريا الشمالية، والصين، وروسيا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لخلق ما يعتبره قادتهم بديلاً عن النظام السياسي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، عبر تقويض المصالح الوطنية الأميركية والمساعدة في تخفيف الضغط السياسي الغربي والعقوبات الاقتصادية على إيران أو التحايل عليها.
تحالف المصالح
وعلى رغم أن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي هو من أكثر من يدركون مفهوم العداوة المشتركة مع روسيا تجاه الولايات المتحدة، إلا أن العلاقات الروسية – الإيرانية معقدة، فكلاهما سعى من أجل مصالحه في مساعدتهما لرئيس النظام السوري بشار الأسد على هزيمة معارضيه، فقد ساعد إنقاذ الأسد روسيا على إعادة تأكيد نفسها كقوة رئيسة في الشرق الأوسط، لكن بالنسبة إلى إيران، تعد “سوريا الصديقة” حلقة وصل مهمة في التحالف الإيراني المناهض للولايات المتحدة وإسرائيل، لكن موسكو وطهران تنافستا أيضاً على عقود إعادة الإعمار والبنية التحتية المربحة بعد الحرب في سوريا، وتشكيل البيئة السياسية بعد الحرب لصالحهما.
ومع ذلك، لم يكن أي من البلدين قوياً بما يكفي للتأثير في الطريقة التي يعمل بها الآخر في سوريا، ونتيجةً لذلك تعاونت القوات الروسية مع تلك المدعومة من إيران في بعض الأحيان، وفي أوقات أخرى حصل خلاف، وفي النهاية أجبرت محنة روسيا في أوكرانيا الرئيس بوتين على طلب مساعدة إيران بطريقتين، تمثلت الأولى في تقديم الحرس الثوري الإيراني قوة بشرية إضافية لملء الفراغ الذي تركته روسيا عندما أعادت توزيع قواتها من سوريا ونقلت بعضها إلى أوكرانيا، وفي الثانية استخدمت روسيا المركبات الجوية الإيرانية غير المأهولة منخفضة التكلفة، المعروفة باسم الطائرات المسيرة، لمواجهة ترسانة كييف المدعومة من الغرب ودعم القوات الروسية هناك.
وفي يوليو (تموز) الماضي، استضافت إيران عديداً من الضباط الروس، ثم أجرت تدريبات على عمليات الطائرات المسيرة من نوع “شاهد 129” اعتباراً من أوائل أغسطس (آب)، فيما أشارت جهات استخبارية ومسؤولون أوكرانيون إلى أن روسيا حصلت على طائرات إيرانية مسيرة واستخدمتها في أوكرانيا في أوائل سبتمبر (أيلول)، ومنذ ذلك الحين أطلقت روسيا أكثر من 100 طائرة إيرانية هجومية واستطلاعية من طراز “شاهد –136″ و”شاهد 191″ و”مهاجر -6” في أكثر من 12 هجوماً ضد مجموعة كبيرة من الأهداف، من بينها القوات الخاصة الأوكرانية، ووحدات المدرعات والمدفعية، والدفاع الجوي ومخازن الوقود، والبنية التحتية العسكرية ومراكز الطاقة الأوكرانية وأهداف مدنية أخرى.
ووفقاً لمراكز دراسات دفاعية أميركية ومسؤولين أمنيين أميركيين، يتوقع أن تعتمد روسيا بشكل أكبر قريباً على إيران لتحل محل إمدادات الأسلحة المتضائلة من خلال الحصول على نوعين من الصواريخ الباليستية قصيرة المدى إيرانية الصنع لاستخدامها في أوكرانيا.
تعزيز مصالح إيران
قد لا يساعد هذا التحالف الدافئ روسيا على هزيمة أوكرانيا، لكنه سيعزز مصالح إيران، فمن ناحية أدى الانسحاب الجزئي الروسي من سوريا إلى جلب جنود إيرانيين إضافيين إلى هناك، من أجل ترسيخ تواجد طهران في سوريا والحفاظ على ممر مفتوح أو جسر بري تقدم إيران من خلاله الدعم لشبكتها من الشركاء والوكلاء المناهضين لأميركا وإسرائيل، ومن ناحية أخرى، سيعزز امتلاك روسيا للطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية الإيرانية بشكل كبير صناعة الأسلحة الإيرانية، ليس فقط بين عملائها الأساسيين من الميليشيات التابعة لها، بل أيضاً من المحتمل أن يوسع سوقها الهامشية لتصنيع وتصدير الطائرات المسيرة في إثيوبيا وطاجيكستان وفنزويلا.
علاوةً على ذلك، فإن التحول المفاجئ لروسيا التي تعد ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم إلى مستورد للأسلحة الإيرانية، لا يشير فقط إلى جدية المشكلات التي تواجه موسكو، وإنما يضفي أيضاً نوعاً من الشرعية على صناعة الأسلحة في طهران ويوسعها إلى مجال أبعد من إنتاج الأسلحة لغرض الاكتفاء الذاتي، ويدفع إيران نحو دور أكثر بروزاً كمصدر رئيس للأسلحة.
لكن الأهم أن حرب أوكرانيا تفتح طريقاً جديداً يمكن لإيران من خلاله مواجهة الأسلحة التي تقدمها الولايات المتحدة لكييف بشكل مباشر، فضلاً عن توفير فرصة لتقويض نفوذ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوراسيا، إذ يمكن للطائرات الإيرانية المسيرة أن تتيح لموسكو رداً فعالاً ومطلوباً بشدة على الأسلحة الأميركية التي تهاجم القوات الروسية في أوكرانيا، كما أنها قد تجبر المتبرعين الغربيين لأوكرانيا على تخصيص مليارات إضافية للدفاع الجوي ضد أنظمة الطائرات المسيرة، أو تقديم المساعدة لتعويض أوكرانيا عن خسارتها المادية والعسكرية التي استهدفتها الأسلحة الإيرانية.
لعبة محصلتها صفر
وإضافة إلى ذلك، سيؤدي إدخال الصواريخ الباليستية الإيرانية إلى أوكرانيا إلى مضاعفة المكاسب التكتيكية المحدودة التي حققتها الطائرات الإيرانية المسيرة، لأنها ستجلب مزيداً من المعاناة، وتطيل أمد النزاع وتزيد من زعزعة استقرار الحرب في أوكرانيا، لكنها لن تقلب موازين الصراع لصالح روسيا في ساحات القتال الرئيسة وفقاً لتقديرات المحللين العسكريين في واشنطن.
ومع ذلك سيسمح هذا لإيران باختبار وتقويض الولايات المتحدة وحلف “الناتو” مباشرةً خارج منطقة العمليات الإقليمية المعتادة لطهران في الشرق الأوسط، وقد تعزز مكانة إيران بين الدول التي ترغب أيضاً في تحدي القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وحلف “الناتو” وتقوي التضامن بينهما.
لم تخف الولايات المتحدة قلقها من حصول موسكو على صواريخ باليستية وأسلحة تقليدية متطورة من إيران، مثل صواريخ أرض-أرض التي من شبه المؤكد أنها ستستخدم لدعم الحرب ضد أوكرانيا، حيث أوضح جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أن القوات الإيرانية موجودة في شبه جزيرة القرم وتقدم المشورة مباشرة للقوات الروسية خلال هجمات الطائرات المسيرة داخل أوكرانيا، وأن طهران منخرطة الآن مباشرةً على الأرض من خلال توفير الأسلحة التي تقتل المدنيين وتدمر البنية التحتية المدنية في أوكرانيا، لكنه استبعد أن يغير ذلك مسار الحرب، مؤكداً أن تصميم الولايات المتحدة لن يتغير في مواصلة تزويد أوكرانيا بالمساعدة الأمنية والمالية التي تحتاجها.
وفي حين يبحث المسؤولون العسكريون عن طرق لإيصال أنظمة الدفاع الجوي إلى أوكرانيا بشكل آمن، يبدو أن الولايات المتحدة ستتخذ إجراءات عدة من بينها إرسال مجموعة أدوات حديثة مضادة للطائرات المسيرة تعرف باسم “فامباير”، التي تنتجها شركة “أل 3 هاريس تكنولوجي”، لكن صحيفة “وول ستريت جورنال” قالت إنه ليس من الواضح على الإطلاق متى سيكون ذلك النظام متاحاً.
نظام “فامباير”
ومع ذلك يعتبر لوك سافوي، رئيس قطاع نظم المعلومات والاستخبارات في شركة “أل 3 هاريس”، أن “الأمر كله يتعلق بتقديم استجابة سريعة وفعالة وإلقاء نظرة على المخزون الحالي وتقديم خيارات لصانعي القرار في الولايات المتحدة لتوفير القدرة للأوكرانيين في الوقت الراهن”.
ويوفر نظام “فامباير” للقوات البرية القدرة على الاشتباك مع أهداف برية وجوية تتجاوز نطاق الأسلحة التي تحمل عادة بواسطة قوات العمليات الخاصة والقوات الخفيفة، وهو نظام أسلحة دقيقة ومتقدمة تعمل على تتبع الأهداف وتحديدها بالليزر، ويعد “فامباير” الذي كشف عنه هذا العام فقط، نظاماً محمولاً يمكن تركيبه في الميدان من شخصين فقط في غضون ساعتين على أي نوع من الشاحنات الصغيرة ويوفر تغطية ودفاعاً جوياً واسعاً بينما يسمح للمشغل بالاختباء والتحرك وإطلاق النار في تتابع سريع.
سلاح العقوبات
في الوقت ذاته، ستواصل واشنطن تطبيق كل العقوبات التي فرضتها على تجارة الأسلحة الروسية والإيرانية، وبحسب كيربي ستصعب أميركا على إيران بيع هذه الأسلحة إلى روسيا وستعمل على دعم الأوكرانيين في الحصول على ما يحتاجون إليه للدفاع عن أنفسهم، كما ستقف الولايات المتحدة مع شركائها في منطقة الشرق الأوسط ضد التهديد الإيراني.
ويتزامن ذلك مع تحرك بريطاني وأوروبي قوي لفرض عقوبات جديدة على إيران بسبب هجماتها بطائرات مسيرة في أوكرانيا، التي تنتهك قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بخاصة القرار 2231، وتستهدف العقوبات البريطانية الجديدة ثلاثة مسؤولين عسكريين، إضافة إلى شركة تصنيع الطائرات المسيرة الإيرانية “شاهد” لصناعة الطيران.
أما الاتحاد الأوروبي فأضاف عقوباته الخاصة إلى نفس المجموعة من الكيانات الإيرانية، وقال رئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا، إن هذا هو الرد الأوروبي الواضح على قيام النظام الإيراني بتزويد روسيا بطائرات مسيرة تستخدمها لقتل مواطنين أوكرانيين أبرياء.
ومع ذلك، من غير المرجح أن تؤدي العقوبات الأميركية أو الأوروبية إلى تراجع إيران عن قرارها، أو إحداث أثر فوري في ساحة القتال، لكن على المدى البعيد قد يكون لها بعض الأثر بينما يترقب الأوكرانيون أسلحة “فامباير” الأميركية وأي أسلحة أخرى من الدول الغربية الحليفة لوقف مفعول الطائرات المسيرة الإيرانية بأسرع وقت ممكن.
اندبندت عربي