تُجمع العديد من القراءات على أن المشهد الذي احتضنته قاعة الشعب الكبرى في العاصمة بكين في ختام أعمال المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني، رسم حقيقة مفادها أن الصين اليوم تدفع بمعايير سياسية ونماذج اقتصادية بات يصعب تجاوزها في السعي لإعادة الحسابات الجيواستراتيجية على قاعدة توازنات جديدة مغايرة تماما لما هو سائد حاليا.
ورسم ذلك المشهد ملامح المنعطف الذي بدأ يتشكل في العلاقات الدولية وفق معايير سياسية جديدة مسنودة بقوة اقتصادية وازنة، وأخرى عسكرية مؤثرة تستهدف تصحيح أسس تلك العلاقات والعودة بها إلى مربعها الأول الذي تهشمت أضلاعه تحت وطأة الأحادية القطبية.
وتُؤشر تصريحات الرئيس الصيني شي جين بينغ، التي أدلى بها في أعقاب إعادة انتخابه أمينا عاما للحزب الشيوعي، إلى هذا الهدف بمفردات سياسية واضحة الدلالات، عكست مقاربة اختزلت في الكثير من عناوينها الحسابات التي لم تعد ترتهن لمعايير التوازنات القائمة.
الصين أوضحت للعالم كيفية تحقيق أهداف مثل القضاء على الفقر المدقع عبر الإرادة السياسية والإجراءات الفعالة
قدم الرئيس شي خلال لقاء مع الصحافة في قاعة الشعب الكبرى قراءة متوازنة لموقف بلاده من التطورات في المنطقة والعالم، مؤكدا في هذا الصدد أن الحزب الشيوعي الصيني “لن ترهبه الرياح العاتية، أو المياه المتقلبة أو حتى العواصف الخطيرة، لأن الشعب سيكون دائما داعما له ويمنحه الثقة”.
وتعهد في المقابل قائلا “سنعمل مع الشعوب من جميع الدول الأخرى على تعزيز القيم الإنسانية المشتركة مثل السلام، والتنمية، والإنصاف، والعدالة، والديمقراطية، والحرية لحماية سلام العالم ودفع تنميته، كما سنواصل تعزيز أعمال بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية”.
ونحسب أن توقيت مثل هذا الخطاب يحمل الكثير من الرسائل التي ستكون لها تأثيرات مباشرة في رسم ملامح المرحلة المقبلة بمعادلات جديدة ستفرض إيقاعها على مجمل المعادلات السياسية، وطبيعة الاصطفافات والمواقف التي تدفع باتجاه الكثير من المُتغيرات في سياق الأهداف المُراد تحقيقها.
ويستند هذا الاستنتاج إلى جملة من المعطيات التي تراكمت على طريق تحقيق هذا الهدف كان التقرير الرسمي للمؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي الصيني قد تطرق لها تحت عناوين سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وعسكرية تبلورت من منظور فهم لمختلف التداعيات وتأثيراتها على المعادلات الناشئة داخليا ودوليا.
ورسمت عناوين ذلك التقرير الذي تم تقديمه في بداية أعمال المؤتمر ملامح الصين الجديدة، والمنعطف الذي بدأ يتشكل على مستوى تحول الصين إلى نموذج يحتذى به لتحقيق التنمية المستدامة، وعلى مستوى موازين القوى العالمية التي تتحرك على وقع المتغيرات الجديدة في المشهد الدولي.
وتُقر ردود الفعل التي عبّر عنها قادة دول وزعماء سياسيون وخبراء من مختلف قارات العالم تابعوا هذا المؤتمر، بأن التقرير فتح المجال واسعا لبلورة خارطة طريق ليس لإظهار الصين كقوة اقتصادية وسياسية فحسب، وإنما أيضا للتأكيد على أنها أصبحت لاعبا مهما في المشهد الدولي لم يعد مسموحا تجاوزه، ولا يمكن لأي قوة في العالم تجاهله.
وقد تطابق هذا الإقرار في مساحات كبرى مع الرؤية التي كان الرئيس شي قد قدمها أثناء تلاوته لهذا التقرير الذي حمل عنوان “رفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية عاليا، والتضامن والكفاح في سبيل بناء دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل”.
وتضمن هذا التقرير جملة من المقاربات التي تعتزم الصين اعتمادها في تعاطيها مع التطورات والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك أيضا الأمنية والعسكرية على مختلف الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية، جاءت في 15 جزءا، منها الجزء الرابع الذي جاء تحت عنوان “تسريع إنشاء نمط تنموي جديد وتركيز الجهود على دفع التنمية العالية الجودة”.
ونص الجزء التاسع من هذا التقرير على “زيادة رفاهية الشعب ورفع جودة معيشته”، فيما اهتم الجزء الحادي عشر بـ”دفع تحديث منظومة الأمن القومي والقدرة على حمايته والحفاظ بحزم على الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي”، بينما شدد الجزء الرابع عشر على “تعزيز السلام والتنمية العالميين ودفع بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية”.
وأثناء تقديمه لهذا التقرير شدد الرئيس شي على ضرورة أن تُركز الصين جهودها على إنشاء نمط تنموي جديد ودفع التنمية العالية الجودة، قائلا “(…) لا بد لنا من تطبيق الفكر التنموي الجديد بصورة كاملة وسديدة وشاملة، والتمسك باتجاه الإصلاح في اقتصاد السوق الاشتراكي”.
وأكد بالتوازي، أن المجتمع البشري بات يُواجه تحديات غير مسبوقة، حيث تعهد في هذا الصدد بأن بلاده “تدفع نحو بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية”، داعيا في هذا السياق دول العالم إلى “ترقية القيم المشتركة للبشرية جمعاء والتي تشمل السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، وتعزيز التفاهم بين شعوب مختلف الدول”.
ورأى مراقبون أن ما جاء على لسان الرئيس شي خلال المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي في بلاده، هو في الجوهر حصاد لسنوات عديدة من العمل والجهد اللذين مكنا الصين من بنية اقتصادية أضحت تُنافس أفضل الاقتصادات العالمية، ومن فرض حضورها الفعلي على مستوى القرار العالمي.
وفي هذا الصدد، قال يوري تافروفسكي الأستاذ بجامعة الصداقة بين الشعوب في روسيا في تصريح لوكالة أنباء “شينخوا” إن الصين حققت خلال العقد الماضي إنجازات عظيمة في تسريع بناء نظام اقتصادي حديث، وتعزيز الابتكار التكنولوجي، وتحسين حوكمة الدولة.
ومن جهته قال روني لينز مدير المركز الصيني – البرازيلي للأبحاث والأعمال إنه بموجب توجيهات الحزب الشيوعي الصيني، أوضحت الصين للعالم كيفية تحقيق أهداف مثل القضاء على الفقر المدقع عبر الإرادة السياسية والإجراءات الفعالة، مضيفا أن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والقضاء على الفقر وعدم المساواة الاجتماعية، طريقة أكيدة لبناء عالم أفضل.
وكانت الصين قد أعلنت في العام 2021 أنها نجحت في انتشال آخر 98.99 مليون شخص من سكان الريف الفقراء الذين كانوا يعيشون تحت خط الفقر الحالي من براثن الفقر، ورفعت جميع المحافظات الفقيرة البالغ عددها 832 والقرى الفقيرة البالغ عددها 128 ألفا من قائمة الفقر.
ودفعت هذه المؤشرات الباحث الكيني في العلاقات الدولية كافينس أدير إلى القول إن “بناء مجتمع حديث لأكثر من مليار شخص يُعد دون شك مساهمة كبيرة في تقدم البشرية”، مضيفا أن الصين “تُقدم نموذجا جيدا للدول النامية الأخرى لتمسك بيدها طريقها نحو التجديد الوطني والتنمية”.
وتستند هذا الآراء في مجملها إلى جملة من المعطيات المُستمدة من التجربة الصينية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناجحة، وما رافقها من مبادرات على صعيد الداخل الصيني، وكذلك أيضا على الصعيدين الإقليمي والدولي، منها مبادرة الحزام والطريق في العام 2013، ومبادرة التنمية العالمية في العام 2021، ومبادرة الأمن العالمي في العام 2022.
وعكست تلك المبادرات التزام الصين بالسلام العالمي والازدهار المشترك على أساس الاحترام المتبادل والتعاون المربح للجميع بعيدا عن الهيمنة والأحادية والإقصاء وعقلية الحرب الباردة، الأمر الذي مكن الصين من إقامة شراكات وثيقة مع عدد كبير من دول الجنوب وبعض الدول الوازنة في المنطقة.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الصين اليوم استطاعت فرض معايير سياسية ونماذج اقتصادية لن يكون بمقدور الحسابات التي تفرضها المتغيرات المتسارعة تجاوزها، أو تجاهل تأثيراتها على المعادلات الناشئة في المشهد العالمي الذي نحسب أنه بدأ على وقع ذلك في إعادة ترتيب أوراقه على قاعدة التخلص من الأوراق التي استنفدت أغراضها.
العرب