العامل الاقتصادي المنسي في الانتفاضة الإيرانية

العامل الاقتصادي المنسي في الانتفاضة الإيرانية

لا تزال الاحتجاجات الإيرانية تتواصل، بعد أن اندلعت إثر وفاة الشابة الإيرانية البالغة من العمر 22 سنة مهسا أميني في مستشفى بطهران قبل شهر من الآن، وكانت شرطة الآداب الإيرانية، جشت إرشاد، قد احتجزتها بزعم انتهاك قواعد اللباس الصارمة المفروضة على النساء.

طهران – الحكومة الإيرانية فشلت في إسكات نبإ وفاة أميني في السادس عشر من سبتمبر، مثلما فعلت مع قصص ضحايا وحشية شرطة الآداب، مما تسبب في اشتعال المجتمع الإيراني واندلاع اضطرابات شعبية فريدة من نوعها.

وسجّلت إيران منذ 2017 احتجاجا رئيسيا واحدا على الأقل كل سنة، ولكن هذه التحركات نادرا ما استمرت لفترة طويلة مع مثل هذا النطاق الجغرافي الواسع. ومثّلت مطالب المحتجين الفارق الأساسي بين الاحتجاجات الحالية وتلك التي سبقتها، حيث انتقلوا من مظالمهم الاقتصادية السابقة وفكرة السعي للتغيير من داخل النظام الحالي إلى الانتقال السياسي الكامل، بما في ذلك تفكيك النظام. لكن المشاكل الاقتصادية المزمنة التي تعاني منها إيران تبقى خلفية بارزة راكمت الغضب والاستياء الاجتماعيين لسنوات، وخلقت ظروفا خصبة للأزمة الحالية.

ويشير المتظاهرون خلال الشهر الماضي إلى تغيير نوعي آخر أيضا: أزمة شرعية عميقة يواجهها النظام. فإذا تمكنت سلطات الدولة من النجاة من الاضطرابات الحالية كما يبدو محتملا، فسيصعب استعادة ثقة السكان، وفقا لنيكولاي كوزانوف الباحث في مركز دراسات الخليج.

مشاكل اقتصادية
أبرزت شعارات المتظاهرين وهتافاتهم أن الاحتجاجات الحالية لا تتعلق بالاقتصاد حصرا، بل بمعارضة النظام والقمع السياسي والاجتماعي الذي يمارسه على نطاق أوسع. لكن مشاكل إيران الاقتصادية نفسها خلقت جوا أذكى غضب المحتجين وليس في صالح النظام. ويُذكر أن معدل التضخم تجاوز 50 في المئة لهذه السنة 2022، وكانت الطبقات الدنيا من المجتمع الإيراني الأكثر تعرضا لآثاره السلبية. واستمر ارتفاع الأسعار بشكل مطرد بينما انخفضت قدرة الأسر الشرائية وتباطأ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. ويعود عدم انكماش الاقتصاد إلى حد كبير إلى ارتفاع أسعار النفط بينما بقيت الخطوات التي اتخذتها الحكومة للتعامل مع التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد غير كافية. ففي البداية، لم يتمكن الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي من تجميع فريق اقتصادي يشمل أشخاصا من ذوي التفكير المماثل في حكومته. وأدت التناقضات التي برزت بينهم إلى تعقيد إدخال التدابير اللازمة. ثم تبنى رئيسي خطة إصلاح اقتصادي عانت من عدد من أوجه القصور الحرجة. وأدى إلغاء سعر الصرف الرسمي للدولار الذي كان يستخدم لاستيراد السلع الأساسية، بما في ذلك الغذاء، إلى زيادة أسعار المستهلك للسلع المستوردة رغم أنه قضى على مصدر آخر للفساد وإهدار الأموال.

وساعد قرار إعادة هيكلة مدفوعات الدعم المباشر على تخفيف عبء الميزانية المرتبط بذلك على المدى الطويل، لكنه سرّع معدل التضخم دون اقتراح آلية بديلة لاحتوائه. بل على العكس من ذلك، حيث عملت الحكومة بشكل مطرد على تقليص حجم السندات الصادرة في ظل غياب الطلب وانخفض الاستثمار الخاص في الاقتصاد الإيراني وسط عدم ثقة شعبي أوسع في سياسات الحكومة الاقتصادية. كان يمكن أن يساعد هذا في الوضع الطبيعي على امتصاص السيولة الزائدة. كما وجد القطاع المصرفي نفسه في موقف صعب، حيث ذكر وفق خبراء الاقتصاد الإيرانيين أن معدلات التضخم المرتفعة وانخفاض قيمة الدخل حفزا الشركات الصغيرة على الحصول على قروض إضافية، في حين ترفض البنوك تقديم الدعم المالي أو توفره بمعدلات فائدة عالية.

ويبدو أن نموذج “اقتصاد المقاومة” الذي روجت له القيادة الإيرانية غير مستدام على المدى الطويل ما لم تطرأ عليه تغييرات كبيرة. ومكّن من استقرار الوضع بعد الصدمة الأولية من فرض العقوبات في 2010 – 2012 و2018، لكنه لا يستطيع معالجة تأثيرها على أساس الاقتصاد الإيراني وتوفير القدرة على تطوير قاعدة إنتاج وجذب الاستثمارات الأجنبية واستخدام القروض المصرفية الأجنبية طويلة الأجل والدخول إلى أسواق جديدة. ويصبح تدهور قاعدة الإنتاج الإيرانية العقبة الرئيسية أمام التنمية الاقتصادية واستقرار الميزانية.

لم يكن الرئيس رئيسي محظوظا أيضا. وصعد للسلطة عندما أصبح تأثير العقوبات السلبي على الأساس الاقتصادي محسوسا أكثر. واستمر انكماش الإنتاج في العديد من الصناعات الإيرانية منذ 2019، بما في ذلك مصنعي السيارات ومنتجي المواد الغذائية والمنسوجات. وأثّرت هذه الاتجاهات بدورها بشكل مباشر على التجارة الخارجية للبلاد؛ يتراجع حجم الصادرات الإيرانية من حيث القيمة والوزن، بينما يتأثر الميزان التجاري، باستثناء النفط والغاز، سلبا. وسيتعين على القيادة في طهران لمواجهة هذه التحديات حل المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي تسببها خصوصيات الاقتصاد الإيراني والتي تفاقمت بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها.

العامل الاجتماعي
مشاكل إيران الاقتصادية نفسها خلقت جوا أذكى غضب المحتجين وليس في صالح النظام، مع معدل تضخم تجاوز 50 في المئة لهذه السنة

يجسّد فشل القيادة الإيرانية في تحويل النمو الاقتصادي البطيء إلى تنمية اجتماعية تحديا هيكليا آخر طويل الأمد. حيث انخفضت القوة الشرائية ودخل الأسر الإيرانية بشكل مطرد منذ منتصف سنة 2010. كما شهدت البلاد تخفيض الإنفاق على الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء، لصالح مدفوعات الإسكان. وأصبح 18.4 في المئة من السكان في إيران يعيشون في فقر مدقع بحلول 2022، في حين أن 60 في المئة كانوا إما عند خط الفقر أو تحته.

وليس من المستغرب أن تكون الشابات وجه الاحتجاجات الحالية، فهن يمثلن أكثر الفئات ضعفا في المجتمع الإيراني. وحسب تقديرات الاقتصاديين الإيرانيين، يبلغ معدل البطالة بين النساء 13 في المئة، بينما يبلغ هذا المعدل النصف بين الرجال، وهو نحو 7.2 في المئة. وتتضاعف هذه الأرقام تقريبا بين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاما. ووفقا لمصادر أخرى، فإن نسبة العاطلين عن العمل بين أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة تصل إلى 77 في المئة، أي ما يعادل 7.1 مليون شخص. ويوجد تفاوت بين الجنسين في التوظيف، حيث تشارك واحدة فقط من كل خمس نساء في الاقتصاد.

كسر صمام الأمان
لم يكن الوضع الاقتصادي المتدهور وحده كافيا لإثارة مثل هذه الاحتجاجات غير المسبوقة. حيث واجهت إيران ارتفاعا سريعا في الأسعار من قبل، ولم تؤد دائما إلى احتجاجات جماهيرية تؤثر على البلاد بأكملها. واندلع عدد من الاحتجاجات الصغيرة منذ أواخر 2017، وكانت تعكس في الغالب المظالم الاقتصادية التي يشعر بها السكان المحليون ونادرا ما تضمنت المشاكل السياسية. لكن المؤشرات الاجتماعية السلبية ليست مشكلة جديدة. حيث كانت البطالة المرتفعة والتقسيم الطبقي الاجتماعي قضايا في المجتمع الإيراني على مدى العقود القليلة الماضية. وساهمت المشاكل الاقتصادية الإيرانية في تمهيد الطريق للاحتجاجات الحالية بينما كانت العوامل السياسية هي الحافز الحقيقي، حيث فقد الشعب الإيراني الثقة في فكرة الجمهورية الإسلامية ذاتها.

وكان الإقبال المنخفض تاريخيا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 2021 عندما كان عدد الأصوات غير الصالحة أكبر من إجمالي الأصوات التي فاز بها أي مرشح آخر غير رئيسي أول علامة تحذير للنظام السياسي الإيراني. ولم يقبل المواطنون قرار الحكومة بتنظيف المشهد الانتخابي لضمان فوز رئيسي من خلال استبعاد المرشحين الشعبيين الآخرين وحرمان الناخبين من حقهم في الاختيار.

القوة الشرائية ودخل الأسر الإيرانية يشهدان انخفاضا بشكل مطرد منذ منتصف سنة 2010. كما تم تخفيض الإنفاق على الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء، لصالح مدفوعات الإسكان

وزادت سياسات إدارة رئيسي الاجتماعية والاقتصادية الفاشلة خلال العام الماضي من تفاقم الأوضاع، ودمّرت أي أوهام بين أولئك الذين مازالوا يؤمنون بقدرة المعسكر المحافظ على تحسين الوضع. وجاء هذا بعد أن أثار فشل أسلاف رئيسي من المعسكرات الأخرى في فعل نفس الشيء سؤالا مشروعا حول ما إذا كانت هناك أي قوى داخل النظام السياسي الحالي قادرة على أداء المهمة.

القشة التي قصمت ظهر البعير كانت قرار رئيسي بقمع السكان الإيرانيين في مجالات مثل عدم امتثال النساء ارتداء للحجاب والحق في الاستمتاع مثل استضافة حفلات منزلية صاخبة وإقامة الأمسيات الموسيقية في المطاعم وتعاطي المخدرات والكحول. كان هذا جزءا من اتفاق غير معلن بين الشعب والحكومة: يتحمّل السكان صعوبات اقتصادية مقابل حقهم في تجاهل عدد من القواعد. لكن الرئيس المحافظ كسر هذه الاتفاقية التي كانت بمثابة صمام أمان وكسر معها صبر المواطنين أيضا.

وتشير شدة الاحتجاجات حتى الآن إلى أن طهران لن تكون قادرة على قمعها بسهولة. وحتى لو أمكن إسكات المنتفضين مؤقتا، سيتعين على النظام السياسي الإيراني إجراء تغييرات عاجلا أم آجلا. كما يعني اتساع الاستياء وعمقه في المجتمع الإيراني أن النظام السياسي لن يكون قادرا على الإفلات بإصلاحات طفيفة في المجال الاقتصادي أو السياسي. ويجب أن تكون التغييرات عميقة وواسعة النطاق وتؤثر على جميع جوانب الحياة في إيران حتى ينال النظام أي فرصة لاستعادة الثقة.

العرب