كسر الأحادية الأميركية على قمة العالم لم يكن في حاجة إلى حرب أوكرانيا. لكن الرئيس فلاديمير بوتين مصر على تكرار القول إن الحرب أنهت الأحادية الأميركية وفتحت أبواب التعددية القطبية. فالأحادية الأميركية التي بدأت بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي لم تدم حتى عقدين. إذ واجهت مضاعفات الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق وصعود الصين وعودة روسيا إلى العمل على استعادة الدور. وما حدث هو “تدهور النظام العالمي” كما يرى البروفسوران في هارفارد داني رودريك وستيفن والت. وهذا، في رأي ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي هو “الخطر اليوم، فالعالم يشهد انبعاث أسوأ مظاهر الصراعات الجيوسياسية: تنافس قوى عظمى، طموحات إمبراطورية، صراع على المصادر، وتنامي العداء الذي جعل من المستحيل تقريباً على القوى الكبرى أن تعمل معاً لمواجهة تحديات إقليمية ودولية، ولو كان فعل ذلك يخدم مصالحها”.
والترجمة العملية لذلك هي أن تعدد الأقطاب صار واقعاً من قبل، ولكن من دون نظام. فما يريد بوتين تأكيده هو أن الخوف على الأمن القومي يبرر نظام الغزو. وما يحتفل به هو أنه لا نظام يمنع غزو أوكرانيا أو على الأقل يضبطه في حدود معيّنة تمهيداً للتفاوض على تسوية. وحرب أوكرانيا وحدها لا تصنع نظاماً عالمياً جديداً متعدد الأقطاب، وإن كانت صراع قوى كبرى. هي في أحسن الأحوال رمز لنهاية النظام العالمي الحالي. لكن ولادة نظام عالمي جديد تحتاج إلى ما هو أوسع من الميدان الأوكراني. وهي تحتاج أيضاً إلى ما هو أكثر من انخراط أميركا في “منافسة استراتيجية بفاعلية لتشكيل مستقبل النظام العالمي” كما جاء في استراتيجية الأمن القومي التي قدمتها إدارة الرئيس جو بايدن أخيراً إلى الكونغرس.
ذلك أن بوتين يسعى لتحقيق “نصر استراتيجي” في حرب جيوسياسية محدودة في الجغرافيا وهو يواجه مصاعب حتى في الحفاظ على المقاطعات الأوكرانية الأربع التي احتلها وضمها إلى روسيا. والغرب الأميركي والأوروبي يريد إلحاق “هزيمة استراتيجية” بالرئيس الروسي من دون تدخل مباشر في الحرب. والأمران صعبان جداً. روسيا تستطيع “أن تنتهك بشكل متهور القوانين الأساسية للنظام الدولي كما في حرب أوكرانيا وأن تشكل تهديداً للولايات المتحدة والنظام الدولي” بحسب استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن، لكنها لا تستطيع أن تشكل نظاماً عالمياً جديداً. وأميركا تواجه سؤالاً مهماً طرحه الخبير الروسي ليونيد بيرشيدسكي هو: “كيف يمكن إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا إذا لم تتم هزيمتها في حرب أوسع من جغرافيا أوكرانيا؟”. والغرب الأميركي يتمسك حتى الآن بإبقاء الحرب في أوكرانيا.
فضلاً عن أن الأميركان والروس لا يختصرون اللاعبين على القمة. فاللاعب الصيني منافس قوي جداً صار راغباً وقادراً على “إعادة تشكيل النظام العالمي” بحسب الرئيس شي جينبينغ. وخصوصاً بعدما وافق المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي على التمديد له ولاية ثالثة من خمس سنوات خلافاً لنظام الولايتين الذي كرسه دينغ شياو بينغ. وفضلاً أيضاً عن أن القطب الأوروبي عاد من “إجازة من التاريخ”. وهناك قوى لها أدوار مهمة مثل الهند واليابان وجنوب أفريقيا، وقوى إقليمية طامحة لأدوار أكبر منها مثل إيران وتركيا وإسرائيل.
والسؤال هو: أي نظام عالمي جديد يولد؟ نظام تكون فيه أميركا مشلولة وأوروبا ضعيفة والصين قوية وروسيا مستقوية أم روسيا ضعيفة وأوروبا عائدة إلى شبابها وأميركا والصين تتمتعان بفائض القوة؟ رئيس الاستخبارات الألمانية توماس هالدفنغ يختصر المشهد بالقول: روسيا هي “العاصفة”، والصين هي “التغير المناخي”. وهذا يعني أن التهديد الأكبر لألمانيا وأوروبا هو من الصين. فالعاصفة تنحسر. والتغير المناخي دائم ومتصاعد. والعالم، حتى إشعار آخر، ضحية فوضى قطبية على الطريق إلى نظام متعدد الأقطاب لم يولد بعد.
اندبندت عربي