ريشي سوناك الذي يحكم بريطانيا الآن ليس إنجليزيا. ذلك حدث صادم ومدهش. وهو درس بليغ لشعوب كثيرة لا تزال مسكونة بالخوف على صفاء عرقها ونقاء دمها. ولكن هل يكفي ذلك لإخراج بريطانيا من أزمتها التي تمكنت منها بعد بريكست؟
الانفصال عن أوروبا أطاح منذ أن حدث الاستفتاء المشؤوم بأربعة من زعماء حزب المحافظين الحاكم من غير أن يظهر أحد رغبة في التراجع عنه.
النسبة الضئيلة التي وقفت وراء انتصار دعاة الانفصال قد اختفت بعد أن اختفى أولئك الدعاة وحلت محلها نظرة متشائمة إلى المستقبل.
بريطانيا التي فقدت مكانتها كدولة عظمى منذ سنوات بعيدة، صارت اليوم تشبه دولا في العالم الثالث، فهي عاجزة عن وضع حد لانهيارها الذي ظهر منه الآن وجهه الاقتصادي بشكل بشع في انتظار أن تظهر وجوهه الأخرى متتالية وبسرعة قياسية.
ما لم ينتفض سوناك على أوليات حزبه وثوابته فإنه سيحكم على حكومته بالفشل. وهو فشل لن تتحمله بريطانيا في ظل تداعيات الوضع السياسي المحتدم في العالم
كانت الشعارات القومية التي حكمت دولا انتهت أنظمتها إلى الفشل قد أسعدت جزءا من الشعوب البريطانية أثناء حملة الانفصال وهي اليوم تضع الجميع أمام علامة استفهام كبيرة مع انتخاب الهندي سوناك رئيسا لحزب المحافظين ومن ثم رئيسا للحكومة.
هناك تناقض جوهري ما بين الأسباب التي دفعت إلى التصويت لصالح الانفصال عن أوروبا وبين اختيار سوناك الذي لا علاقة تربطه بالعرق الإنجليزي رئيسا لحكومة، هي في حقيقتها حكومة إنقاذ وإن لم يسمها البريطانيون كذلك خوفا من الفضيحة.
الأسوأ من كل ذلك أن يكشف سوناك عن موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبي دفاعا عن الانفصال. ذلك ما هو متوقع وهو دلالة على أن العقل الشمولي الذي يحكم بريطانيا تحت غطاء الديمقراطية مصر على أن يضرب رأسه بالحائط ولا يعترف بأخطائه.
كانت بريطانيا ولأربعين سنة جزءا من الدورة الاقتصادية الأوروبية. صحيح أن بريطانيا لم تلغ عملتها ولم توقع على اتفاقية “شنغن”، غير أنهما إجراءان شكليان مقابل المضمون العميق الذي تمثل في القوانين التي حكمت حياة اقتصادية كاملة تداخلت من خلالها الممرات التي تجري فيها الأموال والبضائع والصناعات وحتى الخدمات والاستيراد والتصدير وانتقال الأفراد وعملهم.
كانت أوروبا حاضرة في كل ما تفعله بريطانيا باستثناء سياستها الخارجية التي تم الحرص على أن تكون صادمة لأوروبا من جهة استقلاليتها.
كل ذلك قد تم شطبه ومثل البريطانيون بوقاحة دور المنتصر وهو ما آلم الأوروبيين كثيرا أضمروا رغبة في الانتقام، لا من السياسيين البريطانيين وحدهم، بل وأيضا من الشعب الذي صوت للانفصال.
وهو ما تحقق في زمن قياسي وربح الاتحاد الأوروبي الرهان من أجل أن لا تجرؤ دولة أخرى من دول الاتحاد على التفكير بالطريقة البريطانية.
بريطانيا تحتاج إلى أن تخرج من العزلة التي فرضها عليها محيطها الأوروبي. ذلك لا يعني محاولة استعادة عضويتها في الاتحاد الأوروبي. ذلك أمر صعب، على الأقل الآن
سيُقال إن سوناك ليس محظوظا في التوقيت، لا على مستوى الحكومة ولا على مستوى الحزب. وهو إن كان مجرد إنجليزي بوجه هندي فإن الرهان عليه لن يؤدي إلى نتائج أفضل من النتائج التي انتهى إليها رؤساء الحكومات السابقة الفاشلون.
هل ذلك يعني أن سوناك سيجد الفشل في انتظاره؟
مشكلة سوناك هي نفسها مشكلة حزبه الذي لا يستطيع التخلي عن مصالح الأثرياء. لن يتمكن سوناك من إخراج حزبه من محيطه وهو لا يرغب في ذلك. لذلك فإنه سيجد في وقت قريب أن الأزمة أكبر منه وقد تجاوزت حلوله التي ستأتي متأخرة. حتى التخدير عن طريق المساعدات المالية البسيطة ولفئات محددة لن يفعل مفعوله في ظل تدهور الأوضاع المعيشية نتيجة للغلاء وارتفاع أسعار الطاقة المنزلية.
ما لم ينتفض سوناك على أوليات حزبه وثوابته فإنه سيحكم على حكومته بالفشل. وهو فشل لن تتحمله بريطانيا في ظل تداعيات الوضع السياسي المحتدم في العالم.
تحتاج بريطانيا إلى أن تخرج من العزلة التي فرضها عليها محيطها الأوروبي. ذلك لا يعني محاولة استعادة عضويتها في الاتحاد الأوروبي. ذلك أمر صعب، على الأقل الآن. ولكن تحسين علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي أمر ممكن، بل هو ما يرغب به الاتحاد ولا يرفضه.
غير أن ذلك لن يتم إلا إذا تخلى سوناك وبشكل صادق عن شعارات الانفصاليين في هجاء أوروبا والوعد الكاذب بولادة الأمة واستعادة بريطانيا لعظمتها. فما حلم به بوريس جونسون من منافع بعد الارتماء في الحضن الأميركي لم يكن إلا سرابا وكان الرجل يكذب بطريقة غير مسلية. وإذا ما كان جونسون قد دفع ثمن كذبته فإن فقراء بريطانيا والمنزلقين فيها إلى الفقر قد سبقوه إلى ذلك وهم اليوم القوة الكبرى التي تطيح بمَن يخلفه.
العرب