ما بعد الاتفاق النووي.. إيران بين خيارين

ما بعد الاتفاق النووي.. إيران بين خيارين

NB-130152-635639846488597545

الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، الذي وقعته في 14 يوليو 2015 بلدان مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين، ألمانيا) وإيران، أثار ارتياحاً لدى البلدان الموقعة على الاتفاق وقلقاً لدى جيران إيران.

العلاقات الدبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة مقطوعة منذ 1979. والمفاوضات حول برنامج إيران النووي، الذي يشتبه في أن له أغراضاً عسكرية، بدأت قبل 12 عاماً. كما أن المنطقة واحدة من أكثر المناطق حساسية من الناحية الجيوسياسية. وانتشار الأسلحة النووية يُعتبر موضوعاً استراتيجياً خطيراً جداً. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه حتى آخر لحظة لم يكن أحد يعلم ما إن كانت المفاوضات ستفضي إلى اتفاق أم ستنتهي بالفشل. ولعل هذا ما يفسر لماذا كان الموقعون يشعرون بالارتياح بالنظر إلى الطابع الدرامي للرهانات.

أوباما يبحث عن إنجاز

وبالنسبة لباراك أوباما يكتسي هذا الاتفاق أهمية خاصة جدا على اعتبار أن حصيلة الرئيس الأميركي على صعيد السياسة الخارجية ليست مبهرة. صحيح أنه حاز على جائزة نوبل للسلام، ولكن ذلك كان تحفيزاً وتشجيعاً له وللأمل الذي يجسده أكثر منه عرفاناً بإنجازات معينة حققها. ذلك أنه لم يستطع ممارسة ضغط على إسرائيل من أجل التوصل لاتفاق سلام مع الفلسطينيين، وهو ما كان يمثل طموحه الرئيسي. بل يمكن القول: إن وضع الفلسطينيين استمر في التدهور والتردي، وخاصة مع حرب غزة في 2014. وعلاوة على ذلك، فإن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لم تشهد أي تحسن، بل على العكس، ساءت واعتراها الفتور. هذا في وقت ترى فيه واشنطن الصين تصعد وتزداد قوة. وعليه، فإن إجراء مصالحة مع إيران سيمثل تركته الدبلوماسية الأهم. ولعل هذا ما يفسر إغراء وجاذبية التوصل لاتفاق معها، وإن بشروط غير مُرضية تماما، فقد كان لا بد من تشديد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس من أجل التأكد من أن الاتفاق “قوي” ومنع إيران فعلا من التوجه نحو تطوير سلاح نووي انطلاقا من برنامجها النووي المدني.

بنود جوهرية

وبشكل عام، يمكن تلخيص الاتفاق الذي وقع في 14 يوليو 2015 في ثلاث نقاط: تقليص البرنامج النووي الإيراني خلال عشر سنوات، يتم خلالها خفض عدد أجهزة الطرد المركزي من 19 ألفاً إلى 5060 جهازاً. وتحديد 300 كيلو جرام حداً أقصى لمخزون اليورانيوم المخصب إلى جانب وضع مفاعل أراك تحت مراقبة دولية. وبالمقابل، لا يتم تعليق العقوبات الدولية وإنما رفعها. وامتلاك الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق زيارة وتفتيش كل المنشآت الإيرانية حتى تستطيع رصد واكتشاف أي محاولة لتحويل البرنامج لأغراض عسكرية.

الاتفاق يسمح بتجنب انتشار نووي إيراني، مع ما كان سينطوي عليه ذلك من عواقب استراتيجية كارثية للمنطقة، وخلق اختلال خطير للتوازن، وخطر انتشار نووي عام. باختصار، تفادي سيناريو كارثي. ولكنه يتجنب أيضاً تحقيق هذه النتيجة- منع إيران من تطوير سلاح نووي- بواسطة ضربات عسكرية على المنشآت النووية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما كان يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار كامل المنطقة وإلى تنام للإرهاب على نحو منفلت لا يمكن السيطرة عليه. وهو ما يمثل سيناريو كارثياً آخر.

بيد أن الاتفاق، وإنْ تجنب هذين السيناريوهين القاتمين، ليس مطَمئنا تماماً للبلدان المجاورة، وذلك على اعتبار أن السؤال الذي يُطرح هنا هو بخصوص الموقف الذي ستتبناه إيران في المرحلة الجديدة، ذلك أنه إذا كان برنامج طهران النووي العسكري قد انتهى ربما، فإن طموحاتها الاستراتيجية الإقليمية التي يمكن أن تشكل تهديداً بالنسبة لبلدان الخليج ما زالت موجودة.

ظلال من الشك

والحق أن الاتفاق حول برنامج إيران النووي ترك ظلالاً من الشك مخيمة على السياسة الإيرانية، سواء داخلياً أو على الصعيد الدولي. فالنظام لا يزال قمعياً على الصعيد الداخلي، ولكن تخفيف الشعور بالحصار ربما يمنح هامش مناورة أكبر للمعارضة وللمجتمع المدني، اللذين يجدان دائماً صعوبة أكبر في التعبير عندما يكون بلد ما في مواجهة تهديدات خارجية. ولكن الاحتمال الثاني- وهو ما يبدو أنه سيحدث في مرحلة أولى- هو أن يسعى المتشددون، الذين ينتقدون روحاني بدعوى أنه قدم تنازلات كثيرة للعالم الخارجي، للحصول على نوع من التعويض من خلال دفع النظام لتشديد مواقفه وسياساته. والواقع أن القلق نفسه موجود على المستوى الدولي.

ولكن هل ستقوم إيران بتلطيف وتليين سلوكها الدولي، ولاسيما في سوريا، حيث تُعتبر الداعم الرئيسي لنظام بشار الأسد الذي يواصل قمعه الدموي مع أكثر من 250 ألف قتيل؟ وهل تخوف بلدان الخليج من أن تؤدي نهاية العقوبات الاقتصادية إلى زيادة تدخلات إيران وتطوير قدراتها مبرر وفي محله؟ الواقع أن السؤال يظل مفتوحاً، والأمل هو أن يؤدي جو من الثقة إلى فتح حوار على جميع الأصعدة مع طهران. ولكن ذلك غير مؤكد، بل على العكس، ذلك أن الكثيرين يخشون أن يسعى “المتشددون”، في إطار مواجهتهم مع المعتدلين في طهران، للانتقام عبر دفع طهران نحو تبني سياسة خارجية أكثر تشدداً.

تخفيف الضغوط الاقتصادية

لقد أرادت إيران اتفاقاً من أجل تخفيف الضغط على اقتصادها. فكلفة البرنامج النووي الإيراني بلغت 100 مليار دولار، وكلفة العقوبات تقدر بـ500 مليار دولار، ونقص الاستثمارات المرتبط بهذا الوضع يقدر بـ1000 مليار دولار. وهذا أمر مأساوي بالنسبة لبلد يبلغ عدد سكانه ثمانين مليون نسمة، نصفهم دون سن الثلاثين. وبالمقابل، فإن نهاية العقوبات ستسمح لإيران مستقبلا باسترجاع 100 إلى 150 مليار دولار من الأموال المجمدة.

ولكن ماذا ستفعل إيران بهذه الأموال؟ تحسين أوضاع السكان مثلما يرغب في ذلك الرئيس روحاني؟ وهو ما سيمثل أمراً حكيماً، أم تمويل سياسة خارجية تدخلية وعدائية، كما يرغب في ذلك “الحرس الثوري”؟ الخطر هو أن يكون الخيار الأخير هو الأرجح على المدى القصير، ذلك أن إيران تتدخل حالياً في أربع بلدان عربية، وهذه البلدان تواجه إشكاليات حقيقية.

تناقضات إيرانية

وفي سوريا، تُعتبر إيران– مع روسيا– آخر داعم لبشار الأسد. والحال أن تزايد قوة هذا الأخير وقمعه الدموي يساهمان في تقوية “داعش” ومده بمجندين جدد. وهنا أيضاً يوجد تناقض بين هدفين معلنين هما: دعم بشار الأسد والقضاء على “داعش”.

وفي اليمن، وإن كانت للتمرد “الحوثي” أسس داخليةٌ، فإن إيران لا تفعل شيئا من أجل إنهاء النزاع، مع ما ينطوي عليه ذلك من خطر استغلال “داعش” للفراغ الاستراتيجي ومحاولة ملئه.

وفي لبنان، تدعم إيران “حزب الله” كثيراً لدرجة يمكن القول معها إنه يمثل “النجاح” الحقيقي الوحيد لتصدير الثورة الإيرانية إلى بلد عربي. والواقع أن إيران تدعم بشار الأسد لأن سوريا تمثل إلى حد كبير الباب المؤدي إلى لبنان؛ غير أن التحالف بين البلدين قديم ويعود إلى عهد حافظ الأسد الذي تحالف مع إيران في الثمانينيات عندما كانت طهران في حرب مع العراق، من أجل تشكيل “تحالف خلفي”.

ثمن دعم بشار

ولكن، لكم من الوقت وبأي ثمن تستطيع إيران دعم بشار الأسد؟ الواقع أن الأمر يتوقف بشكل كلي على الدعم المالي والعسكري الروسي والإيراني، وعلى الدعم الذي يقدمه “حزب الله” من حيث الجنود. غير أن تعزيز الوجود العسكري الروسي في سوريا مؤخراً من غير المؤكد أن يعني أن موسكو ستدعم بشار الأسد للأبد؛ فربما يكفي موسكو أن تتأكد فقط من أن مصالحها مصانة في سيناريو تتشارك فيه عناصر من النظام السوري من دون بشار الأسد مع عناصر من المعارضة من دون “داعش” بالطبع. فإيران ستكون مرغمة على قبول مثل هذا السيناريو في حال تحققه. والحال أن الموقف الروسي بدأ يتقارب مع موقف البلدان الغربية وبلدان الخليج حول سوريا لأن الحرب ضد “داعش” أضحت من الأولويات.

وفي العراق، أدركت إيران أنها لا تستطيع التدخل عسكرياً ضد “داعش”- رغم رغبتها في ذلك- لأن من شأن ذلك أن يقوي بشكل كبير مشاعر التضامن بين السكان السُنة ضدها، وستكون في تلك الحالة قد أوقعت نفسها في مستنقع يصعب الفكاك منه.

سياسة “العداء المستحكم”

والواقع أنه حتى إذا أدت نهاية العقوبات إلى جلب موارد جديدة لإيران، فإن تلك الموارد لن تكون كثيرة بشكل فوري. ثم إن السكان، الذين تأثروا بالعقوبات وضاقوا ذرعاً بها، يتوقون لرؤية مستوى عيشهم يتحسن. وبالتالي، فعلى الزعماء الإيرانيين الاختيار بين الإبقاء على سياسة المواجهة مع جيرانهم، ولكن مع دفع ثمن ذلك عبر تقديم الدعم المالي لأنظمة صديقة في حالة صعبة، على حساب تلبية الاحتياجات الداخلية والتنمية الاقتصادية للبلاد. علما بأن ذلك سيؤدي، في النهاية، إلى مشاكل اجتماعية وسياسية واحتجاجات شعبية، ويتناقض مع مصلحة إيران على المدى الطويل لأنه ليس لديها ما تربحه من الاستمرار على هذا النهج. فطريق العداء المستحكم مع جيرانها لن يؤدي إلا إلى عرقلة تنميتها. أو السعي للتوصل إلى توافقات مع جيرانها وقبول البلدان الأخرى لحوار شفاف حول مصالح كل الأطراف.

إيران ترغب في عراق ضعيف يكون فيه الشيعة أقوياء، كما أن طهران تقول إن تنظيم “داعش” الإرهابي عدو لها، ولكنها تدعم نظاماً شيعياً طائفياً لا يريد أن يمنح السُنة مجالاً سياسياً. وهذا ما يفسر، في الواقع، لماذا يحظى “داعش” بدعم جزء من السُنة. وبالتالي، فالسياسة الإيرانية متناقضة.

طهران أمام لحظة اخيار

إن طهران الآن أمام لحظة اختيار. فهي يمكنها مواصلة سياسة ينظر إليها جيرانها على أنها عدائية ومهدِّدة، أو اختيار طريق التعاون، وهو ما سيقتضي أن تُظهر حقاً أن الأمر لا يتعلق بمجرد كلمات، وذلك من خلال المساعدة فعلياً على إيجاد حل في سوريا، والعراق، واليمن. فإيران تطرح مشاكل في هذه البلدان اليوم. وعليها، أن تقرر ما إن كانت ترغب أن تكون جزءاً من الحل. بيد أن ذلك يقتضي خروجها من التناقضات الحالية أولاً.

أما التناقض الأول، فيتعلق بمكانة الولايات المتحدة في المنطقة. فإيران لا يمكنها المطالبة بتقليص الوجود الأميركي في الخليج والعمل في الوقت نفسه على تهديد بلدان المنطقة. فهذا تناقض واضح. أما التناقض الثاني، فيتعلق بتنظيم “داعش” الإرهابي، الذي يمثل خطراً على الجميع، خطر كبير بما يكفي من أجل وضع الخلافات الأخرى جانباً والانكباب على مواجهته. وهنا أيضا يتعين على طهران أن تقوم بالاختيار!

باسكال بونيفاس

صحيفة الإتحاد