يريد أغلبية الشباب في العراق نظاما علمانيا أو مدنيا وإن كان الإسلام مصدرا من مصادر التشريع فيه، إلا أن الأهم بالنسبة إليهم هو ألا يكون للأحزاب الدينية دور في السياسة لأنها تستغل الدين والمشاعر الدينية لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية ودنيوية.
بغداد – مضى أكثر من عامين على حركة “تشرين” الاحتجاجية في العراق، وهي وإن لم تحقق أهدافها إلا أنها أظهرت الجيل القادم من الشباب العراقي، والنظام الذي يريدونهم لدولتهم بتقليل الطائفية وإيلاء المزيد من الاهتمام بالزعماء السياسيين الوطنيين بدلا من رجال الدين، مع بقاء الإسلام مصدر التشريع في البلاد.
وأفادت نتائج استطلاع أجراه “مركز تمكين السلام” في العراق بأن قطاعا كبيرا من الشباب العراقي يؤيدون تقليص دور رجال الدين في الحياة العامة.
وأجرى المركز الاستطلاع في الفترة من 10 يوليو إلى 25 يوليو من العام الجاري على 1062 عراقيا، والهدف الأساسي للاستطلاع هو قياس كيف ينظر الشباب العراقي، وخاصة الناخبين المؤهلين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عامًا، إلى الجهات الفاعلة الرئيسية والمفاهيم والأسئلة المتعلقة بدور الدين في السياسة والحكم والحياة العامة.
وألقت نتائج التقرير الذي تم إنجازه عن الاستطلاع، ضوءًا جديدًا على نظرة الشباب لمستقبل البلاد. حيث قالت كاتبة التقرير جينيف عبده “ينظر العراقيون اليوم إلى بلدهم كدولة طائفية على وشك الانهيار، حيث تتنافس الجماعات العرقية والدينية على السلطة في لعبة محصلتها صفر”.
وفي الواقع، كان فضح إخفاقات الأحزاب الإسلامية في الحكم موضوعًا بارزًا في الاحتجاجات حتى قبل عام 2019. فخلال احتجاجات عام 2015، هتف العراقيون في المحافظات الجنوبية “بسم الدين باجونا الحرامية” (باسم الدين، سرقنا اللصوص).
دولة علمانية ديمقراطية
تتوافق هذه المشاعر العامة مع تحول عميق في أفكار العراقيين حول الكيفية التي يريدون بها أن تُحكم دولتهم. حيث تُظهر استطلاعات الرأي التي أجريت منذ عام 2019 اتجاهات ثابتة: يعارض العراقيون النظام الطائفي، وهم يفضلون بشكل متزايد دولة علمانية ديمقراطية منفصلة عن النفوذ الديني. وعلى سبيل المثال، خلصت سلسلة من الاستطلاعات التي أجرتها منظمة الباروميتر العربي، وهي منظمة بحثية في جامعة برينستون، إلى أن الأنظمة السياسية الحالية في بلدان مثل العراق تعمل على جعل الهوية الدينية أكثر هيمنة.
لكن في استطلاع عام 2019، قرر الباروميتر العربي أنه كان هناك تراجع في الثقة في الأحزاب الدينية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، على الرغم من وجود ثقة أكبر في القادة الدينيين مقارنة بالأحزاب نفسها، والتي يُنظر إليها على أنها فاسدة. في جميع أنحاء المنطقة، وفقًا لاستطلاع الباروميتر العربي، تراجعت نسبة الأشخاص الذين أعربوا عن ثقة كبيرة في الأحزاب السياسية، التي يمتلك الكثير منها هوية دينية، بأكثر من الثلث بين عامي 2011 و2019، إلى 15 في المئة.
وتؤكد بيانات الاستطلاع الجديد تطلع العراقيين إلى الحكم العلماني. فقد وجد مركز تمكين السلام في العراق (EPIC) أن عددًا كبيرًا من المستجوبين العراقيين – 47 في المئة – قالوا إن النظام يجب أن يكون ديمقراطيًا علمانيًا مع فصل واضح بين الدين والدولة، بينما أراد 41 في المئة آخرون دولة ديمقراطية حيث الدين هو مصدر التشريع ولكن الأحزاب الدينية محظورة من الحكومة.
ويتفق بعض العلماء والسياسيين في العراق على أن النظام السياسي يُظهر من بعض النواحي بوادر تحرك نحو دولة علمانية. وقال رائد فهمي، رئيس الحزب الشيوعي العراقي، “لا يوجد حزب سياسي يدعو إلى دولة دينية أو إسلامية، ومعظم الأحزاب الطائفية الشيعية والسنية تعلن أن الدولة العراقية الحالية والدستور هما بالفعل مدنيان”.
ووافقته الرأي ربى علي الحسني، الباحثة العراقية التي أجرت بحثًا مكثفًا حول موجات الاحتجاجات في البلاد. بالقول إن “الغالبية العظمى من العراقيين، سواء كانوا منخرطين في حركة تشرين أو لا، يريدون حكمًا علمانيًا”. وأضافت “أظهرت السنوات التسع عشرة الماضية أن تشابك الدين والحكم معادلة خطرة للبلاد حيث أدى إلى طائفية المجتمع وانقسام الناس ولم تستفد منه إلا النخبة السياسية الفاسدة. لقد تعلم العراقيون إلى حد كبير الدرس من العنف الطائفي والحكومات الفاسدة غير التمثيلية التي تحكم وتسلب الناس باسم الدين”. ولفتت إلى أن هناك أيضًا اعتراف متزايد بكيفية قيام النخب السياسية بتطييف المجتمع لتحقيق مكاسبها. قائلة “هذا الاعتراف حاسم في المستقبل القريب والبعيد”.
وبالنظر إلى أن البحث عن دولة علمانية هو تطور جديد نسبيًا في العراق، فإن ملامح مثل هذه الدولة وتعريفاتها غير واضحة حتى الآن. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن المستجوبين العراقيين قالوا إن رجال الدين يجب أن يكون لهم دور محدود في الشؤون السياسية، لكن أثناء الاحتجاجات في عامي 2019 و2020، غالبًا ما كان النشطاء يعودون إلى المرجعيات الدينية، والكثير منهم أيدوا مطالب المحتجين كحلفاء لهم.
تجاوز للطائفية
كان الرأي العام، لاسيما بين المتعلمين الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا، واضحا: يجب أن يكون لرجال الدين دور ضئيل في السياسة، وعلى الرغم من أن هذا لا يترجم بالضرورة إلى مشاعر معادية لرجال الدين؛ إلا أنه لا ينبغي السماح للأحزاب الدينية بالترشح في الانتخابات؛ ويجب أن تكون مؤسسات الدولة خالية من التأثير الديني.
وغالبية الذين تم استطلاع آرائهم هم متعلمون، و62 في المئة منهم يحملون أو يسعون إلى الحصول على درجة البكالوريوس، كما أن غالبيتهم لديهم وظائف. وقال ثلاثة من كل أربعة عراقيين تمت مقابلتهم إنهم يريدون أن يكون الإسلام إما المصدر الوحيد للتشريع (25 في المئة) أو أن يكون مصدرا ضمن مصادر أخرى (51 في المئة)، بينما رفض نحو 28 في المئة أن يكون مصدرا للتشريع.
ورأى نحو 39 في المئة أن “القوانين التي تفرض معايير أخلاقية لدين معين لكنها تؤثر على الجميع من شأنها أن تنتهك حريات الأديان الأخرى”، بينما قال 34 في المئة إنها ضرورية، وقال 27.5 في المئة إنه ينبغي فرضها على المجتمعات الخاصة بها فقط.
وبخصوص قوانين الأحوال المدنية التي تحكم الزواج والطلاق والميراث، قال حوالي 30 في المئة إن الأفراد يجب أن يكونوا قادرين على اختيار القوانين التي تحكم شؤونهم ونزاعاتهم على أساس المعتقدات الدينية، بينما قال 62.5 في المئة إنه يجب أن يكون هناك قانون واحد للأحوال المدنية ينطبق على جميع مواطني العراق بغض النظر عن المعتقدات الدينية.
وبالنسبة إلى جعل التربية الإسلامية إلزامية في المدارس العامة، رأى 30 في المئة إنها يجب أن تدرس فقط التربية الإسلامية وأن تكون إلزامية، وقال 22 في المئة إن الدولة لا ينبغي أن تقدم التربية الدينية في المدارس لأنها مسألة شخصية، وقال 39 في المئة إن المدارس الحكومية يجب أن تقدم التعليم الديني لجميع الأديان الموجودة في العراق.
وأشار التقرير إلى حدوث تحول عميق في أفكار العراقيين حول الكيفية التي يريدون بها أن تُحكم دولتهم منذ احتجاجات “تشرين” التي خرجت ضد الحكومة في عام 2019.
وعلى الرغم من أن قادة الاحتجاج كانوا في الغالب من الشيعة، إلا أن تركيز الحركة لم يكن على المصالح الطائفية، بل كانت هناك “حركة وطنية” تركز على قضايا مثل تحسين الاقتصاد، والمساءلة الحكومية، ومحاربة الفساد، وتنظيم الميليشيات المدعومة من إيران والتي تعمل خارج سيطرة الحكومة.
في المئة من العراقيين اعتبروا أن النظام يجب أن يكون ديمقراطيًا علمانيًا مع فصل واضح بين الدين والدولة
وطوال الاحتجاجات، كانت الشعارات الدينية غائبة عن المشهد. وحتى عندما ظهرت فقد استخدمها المتظاهرون لفضح الاستغلال للدين من قبل الأحزاب الإسلامية الشيعية. وبالمثل، تم استخدام رموز وأيقونات الإسلام الشيعي ليس للمطالبة بهوية طائفية للاحتجاج، ولكن للتأكيد على المفاهيم التقليدية للاستشهاد والصراع بين المضطهدين ومضطهديهم والتي تعتبر أساسية للهوية الشيعية.
وفي الواقع فإن نظام المحاصصة الطائفية يعتبر حديثا، فبعد فترة وجيزة من الغزو الأميركي للعراق عام 2003، تغير النظام السياسي بالكامل. وتم تطبيق نظام تقاسم السلطة، الذي تصوره العراقيون في المنفى قبل الغزو، لإضفاء الطابع المؤسسي على مكان في السلطة للأحزاب الطائفية والعرقية التي ستهيمن على السياسة العراقية لسنوات قادمة.
وكانت النظرية أنه نظرًا إلى أن العراق يتكون من مجموعات عرقية طائفية، بما في ذلك الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين، يجب أن يقوم التمثيل السياسي على هذه الفئات.
ويطلق الأكاديميون على هذا النظام “التوافقية”. وغالبًا ما يُشار إلى النظام العراقي باسم المحاصصة الطائفية، أو تقسيم المناصب السياسية بين الأحزاب الطائفية. وقد أدى ذلك إلى ضمان السلطة السياسية في المقام الأول للأحزاب الكردية والأحزاب الإسلامية الشيعية، والتي غالبًا ما تشكل أكبر الكتل المتماسكة نسبيًا في الانتخابات.
وأصبح هذا النظام الطائفي قوياً ليس فقط لأنه تم إضفاء الطابع المؤسسي عليه من أعلى إلى أسفل، ولكن لأن لاعبي المجتمع المدني يعتقدون أيضًا أنه يمكنهم الاستفادة منه، مما أدى إلى خلق الطائفية في الأسفل أيضًا بعملية مماثلة.
وعلى الرغم من أن نظام تقاسم السلطة هذا غير منصوص عليه رسميًا في الدستور العراقي ، فإن الانتخابات الوطنية بين عامي 2005 و2021، وعمليات تشكيل الحكومة التي تلت ذلك، تشير إلى نمط متكرر من النتائج حيث يكون رئيس البرلمان سنيًا، ورئيس الوزراء شيعيًا. ورئيس الجمهورية كرديا. وقد سمح تعيين هذه المناصب، بعد فترة طويلة من الإدلاء بالأصوات، للأحزاب السياسية المهيمنة في كل مجموعة، مثل الفصائل الإسلامية الشيعية باستخدام ثقلها السياسي للمطالبة باختيار مرشحيها المفضلين. كما فتحت المفاوضات الخلفية الباب للتدخل في عملية الاختيار من الحكومات الأجنبية، ولاسيما إيران ذات الأغلبية الشيعية، كجزء من صراع جيوسياسي إقليمي له دوافع سياسية ودينية.
ومنذ البداية، كانت هناك مقاومة داخل العراق لنظام تقاسم السلطة هذا، ونمت المعارضة بشكل مطرد ضد التشوهات السياسية والفساد الذي تخللها. وشهدت المنافسة بين الجماعات العرقية والدينية على السلطة في بعض الأحيان فترات من العنف الشديد، وعلى الأخص خلال الحرب الأهلية 2006 – 2008 وحرب 2013 – 2017 ضد داعش.
وحتى في أوقات السلم، أدت هذه المنافسة إلى اختلال وظيفي للحكومة، وفساد بين النخب السياسية، وتدخل من المؤسسة الدينية الشيعية “المرجعية”، التي حاولت حماية مصالح العراقيين، حتى لو لم تتمكن من السيطرة على سلوك السياسيين. وأخذت المرجعية ولا سيما آية الله علي السيستاني دورًا مهمًا منذ عام 2003 استجابةً لضعف الدولة العراقية، وزيادة القوة السياسية الشيعية، ولاحقًا ردًا على الفتنة الطائفية، وصعود داعش.
وفي السنوات الأخيرة، ظهر شكل أكثر تهجينًا من السياسات في العراق، حيث تتعايش الوطنية والطائفية بصعوبة. عندما أصبح الشباب العراقي أكثر معارضة لنظام المحاصصة وأكثر غضباً بسبب الخلل الحكومي العام، حيث اندلعت الاحتجاجات في عام 2015 للتعبير عن الغضب ضد النظام القائم. وبحلول عام 2019، سلطت الاحتجاجات المناهضة للحكومة الضوء على المعارضة العميقة لنظام المحاصصة.
العرب