بعد بضعة أيام ستدخل الاحتجاجات في إيران شهرها الثالث بعد أن تحولت إلى أطول انتفاضة معارضة خلال الأعوام الـ 43 من عمر الجمهورية الإسلامية، إذ قضى النظام الإيراني على جميع التظاهرات والانتفاضات السابقة خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الأسبوع أو الأسبوعين، إن كانت على مستوى كل البلاد أو على مستوى مناطق مثل الأحواز وبلوشستان وكردستان وأذربيجان.
تظاهرات عام 2009 كانت أول حراك شعبي ردد فيه المحتجون هتاف “الموت لخامنئي”، غير أنه كان هتافاً هامشياً إلى جانب الهتاف الرئيس “أين صوتي؟” الذي صدحت به حناجر الملايين المنتمين إلى الحركة الخضراء والمؤيدين للمرشحين مير حسين موسوي ومهدي كروبي في العاصمة الإيرانية ضد تزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحة محمود أحمدي نجاد المرشح المحبب للمرشد الأعلى علي خامنئي، وقد استمرت في عز توهجها نحو أسبوع، وكان معظم المشاركين في تلك الاحتجاجات من الطبقات الوسطى، ولم يشارك فيها المحيط، وأعني بذلك الشعوب غير الفارسية، بل انحصر الأمر على المركز، أي طهران وبشكل أقل مدينتي أصفهان وشيراز.
اتسمت تظاهرات نهاية عام 2017 التي ضمت في طياتها الطبقات الفقيرة بهتاف “الموت لروحاني”، الرئيس الإيراني آنذاك، و”الموت للديكتاتور”، والأهم من ذلك هتاف “انتهت القصة، لا نريد الإصلاحي ولا المحافظ”، أي أنها كانت إعلاناً لنهاية حقبة كان الناس خلالها يأملون في إمكان إصلاح النظام الديني من خلال صناديق الاقتراع والبرلمان وانتخاب رؤساء إصلاحيين أو معتدلين، وبداية حقبة أهم ترفض النظام الديني الاستبدادي برمته.
تكررت الهتافات في انتفاضة عام 2019 المعارضة لرفع أسعار البنزين التي شاركت فيها الطبقات نفسها التي خرجت في احتجاجات 2017، لكنها كانت أوسع وشملت أكثر من 100 مدينة إيرانية وردد خلالها المتظاهرون هتافات ضد الديكتاتور والمرشد الأعلى علي خامنئي نفسه، بل وضد النظام بأسره.
انطلقت انتفاضة 2019 من مدينة الأحواز العربية وامتدت منها إلى سائر المحافظات والمدن الإيرانية، إذ نشاهد فيها بوضوح حضور الشعوب غير الفارسية، ابتداء من العرب في إقليم الأحواز والقشقايين الترك في مدينة شيراز بإقليم فارس، مروراً بالأكراد في كردستان والأتراك بالمدن الفقيرة المحيطة بالعاصمة طهران وفي إقليم أذربيجان.
ومنحت فترة تفشي جائحة كورونا فرصة للنظام الإيراني كي يتنفس الصعداء على رغم أن هذه الفترة (2019-2022) أيضاً لم تخل من تظاهرات مناطقية ومهنية قام بها العمال والفلاحون والمعلمون والمتقاعدون في كل إيران، خصوصاً إقليم الأحواز، وفي ذروتها ما عرف بانتفاضة العطش في يوليو (تموز) 2012، حين سقط نحو ثمانية مواطنين عرب برصاص قوات الأمن.
سياقات الثورة الراهنة
هناك قانون للثورات يقول إن كل انتفاضة يمكن أن تدخل طور الثورة إذا توفر فيها شرطان، الأول إذ لم يطق الشعب الاستمرار على منوال حياته الروتينية من جانب، والثاني إذ لم تستطع السلطة الحاكمة استمرار حكمها عليه كما كان في السابق.
وما نشهده حالياً في إيران هو أن الجماهير الغاضبة لم تطق بعد حكم الملالي عليهم، غير أن الشرط الثاني لم يتحقق بعد بالكامل، أي أن السلطة لا تزال تستطيع أن تحكم ولو بصعوبة، ومع ذلك يمكننا القول إن الانتفاضة المندلعة منذ شهرين ولجت ما يعرف بـ “الظروف الثورية” لكنها لم تبلغ “الوضع الثوري” بعد.
أستبعد أن يتمكن النظام من القضاء على هذه الثورة، لكنه حتى لو استطاع ذلك فسيكون الأمر موقتاً وستندلع بعد فترة قصيرة وبوتيرة أكبر لأسباب تعود للعمق الثقافي للثورة ورسوخها في ضمائر معظم الإيرانيين، إذ أصبحت معارضة الحجاب القسريوالمطالبة بالعلمانية والحرية وفصل الدين عن الحكومة من الأمور الملحة لهم، ناهيك عن البنية الاقتصادية والاجتماعية الهشة للنظام الإيراني وما شهدناه من قمع وإراقة دماء المئات من المحتجين في كل أنحاء البلاد ومن جميع الفئات والقوميات.
الصراع بين الجزء التحديثي من المجتمع الإيراني ضد الجزء التقليدي منه على أشده هذه الأيام، ويبدو أن الوقت قد حان لينتصر الأول على الآخر بعد صراع دام أكثر من 100 عام، ويمكن تلخيص أسباب الثورة في ثلاثة، التمييز الجنسي والاضطهاد القومي والأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، فعلى رغم الدور البارز للمرأة الإيرانية وتضحياتها، وكذلك حضور الطبقات الوسطى والمسحوقة خلال الاحتجاجات والتظاهرات الراهنة، غير أنه في حاجة إلى مشاركة جماهيرية أوسع والتحاق شعوب لم تلتحق بعد، وكذلك هناك حاجة إلى أساليب مختلفة للنضال ضد الحكم القائم في إيران بما فيه الإضرابات العمالية، خصوصاً عمال شركة النفط، كما ستساعد الانشقاقات بصفوف الطبقة الحاكمة، لا سيما القوات المسلحة، في تقدم معسكر الثورة على حساب السلطة الاستبدادية.
لقد تحدثت بعض الشخصيات القريبة جداً من المرشد الأعلى في هذا الخصوص، مثل مستشاره علي لاريجاني الذي انتقد فرض الحجاب على النساء وطالب بضرورة الحوار مع المعارضين، والرئيس المتصلب للسلطة القضائية محسني إجئي الذي أكد ضرورة فتح أبواب الحوار وتطويره وتحويله إلى ثقافة عامة.
كما أصدر الرئيس السابق حسن روحاني، الذي كان صامتاً حتى الآن، بياناً ينتقد فيه أساليب المرشد الأعلى قائلاً إن “الأمن القومي لن يتوافر بالأدوات العسكرية فقط، بل الأمن يجب أن يوفر الحياة ويؤمن المعيشة ويضمن الحريات والحقوق الأساس للشعب”.
ودعا البرلماني السابق حميد رسائي، وهو أحد الكوادر الأمنية البارزة في إيران، إلى إقالة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني بسبب ما وصفه بقصور المجلس في إخماد الاحتجاجات والتظاهرات،
ونفت صحيفة “جمهوري إسلامي” المحسوبة على الأصوليين ما صرح به علي خامنئي حول تدخل الأجانب في الاحتجاجات، عازية الأمر إلى “المعضلات الكبرى في البلاد مثل التضخم والبطالة وفقدان التنمية والجفاف ومعضلات المعيشة وتدمير البيئة”.
يمكن أن نصف كل هذا بالتصدعات في صفوف المحافظين التي ستتعمق كلما تطورت الانتفاضة الراهنة، غير أنّا لم نشهد مثل هذه الظاهرة بين قادة قوات الشرطة والباسيج والحرس الثوري إلا في حالات نادرة من التمرد بين الجنود أو المسؤولين الصغار.
دور المارد الإثني
مقتل مهسا أميني الشابة الكردية السنيّة على يد شرطة الأخلاق في العاصمة طهران، وانطلاق الاحتجاجات من مسقط رأسها بمدينة سقز بإقليم كردستان في الـ 16 من سبتمبر (أيلول) الماضي، أعطى زخماً قومياً غير فارسي للانتفاضة مكملاً للزخم النسوي في طهران ومدن أخرى، وتعاملت الأطراف والتيارات السياسية المختلفة في إيران بأشكال متباينة مع هذا العامل الإثني المتنامي والمؤثر، إذ حاولت الحكومة أن تلعب على وتر الحساسيات إزاء الشعوب غير الفارسية وتثير المخاوف التاريخية لدى الفرس من انفصال هذه الشعوب عن إيران، غير أن المتظاهرين في الجامعات وغيرها رفعوا شعارات تبجل نضال بلوشستان وكردستان والأحواز وأذربيجان.
كما سنحت الانتفاضة لهذه الشعوب كي ترفع أعلامها القومية إلى جانب العلم الإيراني في التظاهرات التي تجري في الخارج، ومنها تظاهرات برلين الكبيرة في الـ 22 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
ولم يتحمل الملكيون والقوميون الفرس المتشددون هذه الإعلام والهتافات التي أطلقها الأكراد والعرب والأتراك والبلوش بلغاتهم القومية، فيما تسامح معها الديمقراطيون واليساريون،
كما أن المذابح التي ارتكبت في إقليم بلوشستان وقتل نحو 90 مواطناً بلوشياً خلال ساعة في دزاب (زاهدان) عاصمة الإقليم في الـ 30 سبتمبر الماضي، و16 آخرين بمدينة خاش يوم الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وكذلك قتل نحو 50 كردياً خلال الشهرين الماضيين في إقليم كردستان الإيراني، يؤكد أن تمييز النظام الشوفيني الحاكم لم يقتصر على الشؤون الثقافية واللغوية والاجتماعية والسياسية بل يشمل القمع أيضاً، إذ تختلف مواجهة الاحتجاجات في بلوشستان وكردستان مع طهران أو أصفهان أو أية منطقة فارسية أخرى، وتلعب أحقاد مذهبية وعرقية واثنية دوراً في تشديدها ضد غير الفرس، وهذا ما حصل في انتفاضة نوفمبر 2019 حين قتلت قوات الأمن نحو 300 عربي في إقليم الأحواز (خوزستان رسمياً) من أصل 1500 قتلوا في أنحاء إيران، أي أن 20 في المئة من القتلى كانوا من عرب الأحواز الذين لم يشكلوا إلا نحو ثمانية في المئة من سكان إيران.
وخلال الانتفاضة الأخيرة بلغ عدد قتلى البلوش والكرد نحو 50 في المئة من قتلى التظاهرات، فيما لم تشكل القوميتان إلا نحو 20 في المئة من تعداد البلاد.
ويمكن تبيين عدم مشاركة الشعب العربي الأحوازي بكل ثقله خلال الانتفاضة الأخيرة في ضوء هذه المعطيات، أي أنهم يخشون مواجهة عنيفة وقاسية من قبل الحكومة الإيرانية ربما تكون أعنف مما فعلوه مع الشعب البلوشي، بل ويتوجسون أيضاً من البديل الذي يمكن أن يحل مكان حكم الملالي ويكون حكماً قومياً فارسياً أيضاً لا يعترف بحقوقهم التاريخية، ولا شك في أن العرب سيدخلون معمعة الثورة آجلاً أم عاجلاً بعد أن يقيموا الوضع من جميع جوانبه.
من الواضح أن قوة الشعوب غير الفارسية ومشاركتها في هذه الثورة أكبر مما كان خلال الثورات والانتفاضات التي شهدتها إيران حتى الآن، بدءاً بقيام “ثورة الدستور” أوائل القرن الـ 20 ومروراً بحركة “تأميم النفط” بقيادة محمد مصدق وختاماً بـ “الثورة الإسلامية” عام 1979.
اندبندت عربي