في مقالة نشرها موقع فورين أفيرز في 10 أكتوبر (تشرين الأول) بعنوان “استراتيجية خروج بالنسبة إلى سوريا”، يجادل كريستوفر الخوري بأن الولايات المتحدة قد حققت هدفها الرئيس في سوريا، أي القضاء على ملاذ آمن لتنظيم داعش، بالتالي يفترض بها الآن، أن تولي الأولوية للتفاوض من أجل القيام بانسحاب سريع من البلاد [والتوصل إلى اتفاق] يضمن وصول الولايات المتحدة إلى المجال الجوي السوري وحماية الشركاء السوريين الذين حاربوا جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية. للوهلة الأولى، تبدو هذه الحجة معقولة. ففي نهاية المطاف، لا يرغب أحد في حرب أخرى لا قاع لها. بيد أن الخوري سرعان ما يدحض حجته من خلال الاستشهاد بما ترتب على الانسحاب الأميركي من أفغانستان من آثار زعزعت الاستقرار، وهو حدث شكل صدمة على نطاق واسع هزت النظام الدولي برمته حتى على رغم أن الحملة التي قادتها الولايات المتحدة كانت تواجه الفشل ولم يكن لواشنطن هناك سوى بضعة أهداف استراتيجية قليلة. وعلى النقيض من ذلك، فإن نهج الولايات المتحدة في سوريا يحقق النجاح، ولو بشكل متواضع، ومصالح أميركا الاستراتيجية فيها كثيرة. وإن انسحاباً أميركياً من سوريا على الطريقة الأفغانية من شأنه أن يولد صدمة تزعزع الاستقرار، كما يمكن أن تجعل الفوضى، التي شاعت بالتزامن مع دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب القصيرة الأمد إلى سحب القوات الأميركية من سوريا في عام 2019، تبدو معتدلة بالمقارنة معها وقياساً عليها.
لكن المشكلات التي ينطوي عليها اقتراح الخوري تذهب إلى أعمق بكثير مما توحي المقارنة مع الحالة الأفغانية. فالرئيس السوري بشار الأسد لم ينتصر في الحرب في سوريا كما يؤكد الخوري. كما أن إدارة ترمب لم تجمد التمويل الإغاثي الإنساني لسوريا، كما زعم الخوري في مقالته حين تم نشرها بادئ الأمر (فقد أوقفت الإدارة برامج الإغاثة ثم أعادت العمل جزئياً ببرنامج أصغر لبسط الاستقرار). والأهم من هذه الأخطاء في التقدير والحقائق [في مقالة الخوري] هو حقيقة أن الانسحاب من سوريا يهدد المصالح الإقليمية للولايات المتحدة والمجتمع الدولي. لهذا السبب رفضت إدارة ترمب في عام 2018 مقاربة مشابهة لتلك التي يطرحها الخوري، وهو قرار ثبتت صحته في ضوء الأحداث التي جرت في وقت لاحق.
وإن النتيجة الجوهرية لاقتراح الخوري، على رغم محاولته بصورة حكيمة التقليل من أهميتها، تتمثل في منح الروس منزلة عسكرية ودبلوماسية أكبر لزيادة الضغوط على تركيا وإسرائيل للانسحاب من سوريا أيضاً. وسيؤدي ذلك في نهاية الأمر إلى إبقاء سوريا بأكملها تحت سيطرة الأسد، الذي حرض على الحرب، وتقديم نصر استراتيجي لروسيا وإيران. [كما يعني أن] الولايات المتحدة ستقوم بتحويل عملية فعالة نسبياً داخل البلاد يشارك فيها 900 جندي فقط، لم يقتل أي منهم منذ نحو أربع سنوات، إلى جهد خارجي ضد داعش، ومن المفترض أن يتم ذلك بالتنسيق مع الطاغية المسؤول عن مقتل 650 ألف إنسان وتشريد نصف سكان بلاده.
إن الجهود التي بذلها الأسد ضد داعش ليست فعالة. وعلاوة على ذلك، شدد القادة العسكريون في القيادة المركزية الأميركية علناً على الحاجة إلى موطئ قدم للولايات المتحدة داخل سوريا، وليس في قواعد خارجها، وذلك من أجل قمع داعش. نعم الخوري محق في القول إن الميليشيات المدعومة من طهران تهاجم المواقع الأميركية في سوريا، تماماً كما تفعل في العراق وأماكن أخرى في المنطقة. غير أن الانسحاب سيشجع طهران بدلاً من أن يردعها.
الرئيس السوري بشار الأسد لم ينتصر في الحرب في سوريا
رفض مايك بومبيو في عام 2018 اقتراحاً مماثلاً من أجل سحب جزئي للقوات الأميركية من سوريا والتركيز فقط على محاربة داعش. وخلص إلى أن نهجاً كهذا لن يساعد في حل الحرب الأهلية التي تعتبر أساساً للأزمة، بالاعتماد على التسوية السياسية التي توصل إليها سلفه في وزارة الخارجية الأميركية جون كيري ونص عليها قرار منظمة الأمم المتحدة رقم 2254، الذي دعا إلى وقف لإطلاق النار وإجراء عملية انتقال سياسي [للسلطات] بقيادة سورية، بما في ذلك تنظيم مفاوضات مع المعارضة من أجل وضع دستور جديد. كما أن الانسحاب الأميركي [الذي يقترحه الخوري] لن يؤدي إلى معالجة المحنة التي يعيشها 12 مليون نازح ولاجئ سوري ممن [لن يعودوا إلى البلاد لأنه] سيكون لديهم أسباب معقولة يعتد بها للخوف من انتقام الأسد في غياب تسوية سياسية. علاوة على ذلك فإن انسحاباً أميركياً لن يفضي إلى جبه نفوذ إيران المتزايد ضمن المؤسسات السورية ونصبها أنظمة صاروخية في سوريا يمكنها أن تشكل تهديداً لإسرائيل. ومن شأن الحرب ضد داعش، ومخاوف تركيا الأمنية المختلفة، ومصير الأكراد شركاء أميركا، أي قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، أن تظل كلها أيضاً تحديات بارزة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وشركائها.
وعليه استندت إدارة ترمب إلى جهود كيري وعززتها من طريق تنسيق العمليات العسكرية [التي تقوم بها] الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل من أجل تجميد الصراع وحرمان الأسد من النصر. (لايزال نصف سكان سوريا و30 في المئة من أراضيها، بما في ذلك كثير من المساحات الصالحة للزارعة ومعظم مواردها الهيدروكربونية، خارجة عن سيطرة النظام). لقد حاولت الولايات المتحدة أيضاً أن تتفاوض مع روسيا على حل شامل في عام 2019 على أساس قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. وعلى رغم أن موسكو لم تبد اهتماماً كبيراً بالمفاوضات، إلا أن التجميد [وقف التصعيد في سوريا] بقي سارياً. ولم تسيطر قوات الأسد على أراض إضافية باستثناء مكاسب ثانوية حققتها في أوائل عام 2020، وكان القتال منذئذ في حده الأدنى. وبعد تردد أولي، تبنت إدارة بايدن نهجاً مشابها [للنهج الذي اتبعته إدارة ترمب] تجاه الصراع في سوريا.
وكان القرار القاضي بالبقاء في عام 2018 ينطوي على المجازفة، فحياة الجنود الأميركيين كانت في خطر، كما أن تركيا كانت تعارض بشدة التعاون بين الولايات المتحدة وبين “قوات سوريا الديمقراطية”، وأخذت في ذلك الوقت هجمات جديدة للأسد تلوح في الأفق. لكن على رغم التوغل التركي في مناطق قوات سوريا الديمقراطية في عام 2019، الذي حمل ترمب على إطلاق الدعوة القصيرة للانسحاب، والهجوم الروسي المشترك مع جنود الأسد في عام 2020 ضد القوات التركية وقوات المعارضة في شمال غربي سوريا، فإن الاحتواء ظل يحقق هدفه.
وأصبح النجاح النسبي لهذه الاستراتيجية أشد وضوحاً فقط في السنوات الأربع الماضية، بينما صمد وقف إطلاق النار، ولم تحظ محاولات قامت بها دول عربية عدة لتخفيف عزلة الأسد بتجاوب فعلي من قبل دمشق. والأكثر أهمية من هذا كله، ينبغي أن تتجنب الولايات المتحدة، في عصر المنافسة الجيو استراتيجية المتزايدة بما في ذلك مع روسيا وإيران، التخلي بشكل لا مبرر له عن انتصارات استراتيجية. قد لا يكون تجميد الوضع في سوريا مثالياً، لكن من المرجح أن يكون النصر المحدود على هذه الصورة للمضي قدماً في سوريا وربما في أماكن أخرى أيضاً.
اندبندت عربي