دخلت الثورة الشعبيّة الإيرانيّة شهرها الثالث. لم يتوقف زخم هذه الثورة التي بدأت في السادس عشر من أيلول – سبتمبر الماضي بمقتل الفتاة الكردية مهسا أميني في طهران على يد شرطة الأخلاق. لا يمكن لهذه الثورة إلّا أن تفضي إلى تغيير عميق يتناول تركيبة النظام، القائمة على نظريّة “الوليّ الفقيه”، وهو نظام أسّسه آية الله الخميني ليكون على قياسه.
في اثنين وأربعين عاما، فشل النظام الإيراني على كلّ المستويات في الداخل، لكنّه نجح في وضع الأسس لمشروع توسّعي، لا أفق سياسيا له على الصعيد الإقليمي نظرا إلى أنّه يقوم فقط على تدمير دول معيّنة وتغيير طبيعة مجتمعاتها، كما حصل في لبنان، على سبيل المثال.
يمكن اعتبار هذا المشروع ناجحا من وجهة نظر النظام الإيراني الذي يعمل تحت عنوان “الجمهوريّة الإسلاميّة”. نجحت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في جعل لبنان تحت الاحتلال بعدما صار يتحكّم به لواء في “الحرس الثوري” هو “حزب الله”. لا بدّ من الاعتراف، في نهاية المطاف أنّ إيران باتت الطرف الذي يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة اللبنانية (الماروني المسيحي) منذ نجحت في إيصال ميشال عون إلى قصر بعبدا في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2016 بضمانات من صهره جبران باسيل الذي تعهّد للحزب ألّا يحيد ميشال عون قيد أنملة عن التعليمات التي يفترض به التزامها. شمل ذلك في طبيعة الحال عزل لبنان عن محيطه العربي.
◄ يظلّ أخطر ما في الأمر، بالنسبة إلى النظام، أنّ الثورة لا تشمل منطقة واحدة ولا شعبا واحدا من الشعوب الإيرانيّة. لا تشمل الأكراد والبلوش والعرب الموجودين في الأحواز. فقط. باتت تشمل الأذريين أيضا وقسما من الفرس
لم تتردّد “الجمهوريّة الإسلاميّة”، حين دعت الحاجة إلى ذلك، في دخول صفقة مع إدارة جو بايدن. سمحت للبنان، بغطاء وفّره الرئيس السابق للجمهوريّة ميشال عون وصهره جبران باسيل، بترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل. في المقابل حصل تغيير كبير في العراق صبّ في مصلحة “الحرس الثوري”. تمثّل هذا التغيير في تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد شياع السوداني. لا يستطيع محمّد شياع السوداني، في نهاية المطاف، الخروج من تحت عباءة نوري المالكي رئيس الوزراء السابق الذي يزايد على جميع العراقيين في ولائه لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الحرس الثوري”.
نجحت “الجمهوريّة الإسلاميّة” خارج إيران، لكنّها فشلت في الداخل الإيراني. كانت السياسة الأميركيّة السبب الأوّل في نجاحها الخارجي بعدما تراجعت الإدارات المتلاحقة عن التصدي لها. بدأ ذلك بالسكوت عن احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في سفارة طهران طوال 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1979.
إذا استثنينا اغتيال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” في أثناء مغادرته مطار بغداد في الثالث من كانون الثاني – يناير 2020، كانت كلّ مواقف الإدارات الأميركيّة في خدمة السياسة الثابتة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”. استطاعت إيران في مرحلة ما بعد سقوط نظام الشاه الاستفادة إلى أبعد من مواقف أميركيّة تقوم على فكرة استرضائها.
الأكيد أن نقطة التحوّل الأهمّ كانت تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في العام 2003. حصل ذلك من دون تفكير في العمق في النتائج التي ستترتب على إيجاد خلل دائم في النظام الإقليمي. ولد هذا النظام الإقليمي بعد انهيار الدولة العثمانية.
لا يعود استمرار الثورة الشعبيّة في إيران إلى أن الشعب سئم من نظام يحتقر المرأة ويتطلع إلى الانتماء إلى ثقافة الحياة فحسب، بل يعود أساسا إلى الفشل الداخلي على كل صعيد أيضا.
ليس حرق منزل الخميني في مسقط رأسه، بلدة خمين وسط إيران، سوى تعبير على ذلك. لا يمكن لنظام، أي نظام النجاح خارجيا والفشل داخليا. يظلّ انهيار الاتحاد السوفياتي المثل الأهمّ الذي يمكن تقديمه لتأكيد أن الثورة الشعبيّة في إيران مستمرّة. هذه الثورة مستمرّة على الرغم من كلّ القمع الذي يتعرّض له الشبان الإيرانيون الذين سدّ النظام كلّ الطرق المؤدية إلى ثقافة الحياة في وجههم. ليس صحيحا أن الشعب الإيراني يكره أميركا وأسلوب العيش الأميركي. كلّ ما في الأمر أنّ صبر الشباب الإيراني نفد في العام 2022.
◄ في اثنين وأربعين عاما، فشل النظام الإيراني على كلّ المستويات في الداخل، لكنّه نجح في وضع الأسس لمشروع توسّعي، لا أفق سياسيا له على الصعيد الإقليمي
يظلّ أخطر ما في الأمر، بالنسبة إلى النظام، أنّ الثورة لا تشمل منطقة واحدة ولا شعبا واحدا من الشعوب الإيرانيّة. لا تشمل الأكراد والبلوش والعرب الموجودين في الأحواز. فقط. باتت تشمل الأذريين أيضا وقسما من الفرس. لا يمكن الاستهانة بأي شكل بوصول الثورة إلى مدن أذرية مثل تبريز وأرومية، ذلك أنّ “المرشد” علي خامنئي ينتمي إلى القوميّة الأذرية.
كان الاتحاد السوفياتي القوّة العظمى الثانية في العالم. امتد نفوذه في مختلف أنحاء العالم… وصولا إلى كوبا وأنغولا وإثيوبيا واليمن الجنوبي حيث كان له موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة. كان الاتحاد السوفياتي يتحكّم بكلّ دول أوروبا الشرقيّة وفرض تقسيم ألمانيا وأقام جدار برلين…
انهار الاتحاد السوفياتي مع انهيار جدار برلين في العام 1989. انهار لأنّه فشل من داخل. ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” التعلّم من التجربة السوفياتيّة… تماما مثلما يرفض فلاديمير بوتين استيعاب أنّ روسيا ليست دولة عظمى مهما امتلكت من صواريخ وقنابل نوويّة.
لا يمكن لأي نظام أن يستمرّ مهما هرب من أزماته الداخليّة إلى خارج حدوده. انطبق ذلك على الاتحاد السوفياتي في الماضي وينطبق الآن على إيران. ما الذي لدى إيران لتقدّمه إلى العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان. حيثما حلّت، يحلّ الخراب معها. يظلّ السؤال الذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف هل النظام الإيراني الحالي، وهو نظام يسيطر عليه “الحرس الثوري” قابل للحياة أم لا؟ الجواب أن مثل هذا النظام سيأخذ إيران إلى مزيد من الخراب ولا شيء آخر غير ذلك… بغض النظر عن الصفقات التي يمكن عقدها مع “الشيطان الأكبر” الأميركي. سيظلّ السؤال متى يتصالح النظام مع الشعوب الإيرانيّة؟ هل مثل هذه المصالحة ممكنة من دون الاقتناع بأن الانتصارات خارج إيران هي بمثابة هزيمة داخلها؟
العرب