منذ أن فصل إيلون ماسك، المالك الجديد ورئيس مجلس إدارة تويتر، فريق التوجيه “السياسي” داخل مبنى قيادة الشركة، انهمرت عاصفة هائلة من الانتقادات على الملياردير من قبل المعسكر اليساري، ودخلت حروب الفضاء السيبراني مرحلة متفجرة جديدة تتطاير شظياها في كل الاتجاهات لتصيب الجبهات السياسية داخل أميركا وخارجها، والمفارقة أن إيرانتلعب دوراً غير معروف في هذه الحرب أيضاً.
تويتر قبل ماسك
عند تأسيسها ولسنوات، مارست شركة تويتر سياسة الحياد النسبي تجاه المستخدمين، بما معناه أن الإدارة لم تميز عند قبولها طلبات الانتساب بين أصحاب الطلبات، ولم تضغط على المنتسبين خلال إبداء رأيهم وبعد نشر تغريداتهم على المنصة. فمنذ يوليو (تموز) 2006، وتحت إدارة جاك دورسي، سمحت المنصة لكل الاتجاهات أن تعبر عن نفسها بحرية ضمن إطار الحدود القانونية الضيقة وتحت إرشادات تتعلق بمنع التهديدات للأمن أو للأشخاص. وقد استعملتها كل الأطراف السياسية داخل أميركا وعبر العالم، بما فيها الأنظمة المتهمة بالإرهاب كالجمهورية الإسلامية في إيران وغيرها. وطبعاً تحولت إلى موقع انطلاق وتعبير لحركات التحرير والثورات والتيارات الأيديولوجية وكل ما يعبر عنه المغردون حتى اللا نهاية. ومع أن فايسبوك وإنستغرام وتيك توك يستخدمهم فوق مليار مستخدم فإن تويتر الذي يشارك فيه حوالى 436 مليون شخص بات الأكثر تأثيراً على الصعيد السياسي والأكثر انخراطاً في حرب الأفكار.
وقد تميزت منصة “العصفور الأزرق” بمشاركة وحضور مفكري وكوادر اليسار الليبرالي في الغرب، وأصحاب “الإشارة الزرقاء”، المؤثرين على الخطاب الثقافي والسياسي الدولي. وقد شكلت “النخبة التويترية” قوة غربية وعالية تمكنت من التأثير على كيفية وصف السياسيين والحكومات والشخصيات كما تريده، عبر الـ (Trend) أو الاتجاه، وذلك بحشد توصيفات من قبل جيش من “أصحاب الإشارات” عبر إطلاق موجة جارفة من التغريدات، إما تدعم شخصية وإما تدمر أخرى. وبات تويتر سلاحاً يستعمل في المعارك السياسية الأميركية والدولية.
إلا أن تسييس تويتر لصالح نخبة معينة مركزية في وجه باقي المشتركين تصاعد رقمياً منذ 2013، أي بعد بدء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. والتساؤل حول تلك الفترة على صعيد الشرق الأوسط يطرح ثلاثة نقاط. الأولى كانت استعمال الثورة الخضراء في إيران لتويتر عام 2009 وبعد ذلك. والنقطة الثانية هي استعمال تويتر من قبل الثورة المصرية على الإخوان في 2013. وشكّل استعمال المنصة من قبل ثورتين “ضد الإسلاميين” مصدر قلق للوبيين الإيراني والإخواني فاستفادا من وجود إدارة أوباما الثانية لإقامة تأثير عبر الراديكاليين اليساريين، بهدف الحد من تأثير المعارضة الإيرانية وشقيقاتها المشرقية. وشكّل التفاوض من أجل الاتفاق النووي وتوقيعه في 2015 فرصة إضافية للتناغم بين اللوبي الإيراني والتيار الراديكالي في الغرب وبالتالي التواصل مع “النخبة الزرقاء”.
حرب ترمب التغريدية
ومع انتخاب دونالد ترمب وتأليف إدارته ومناقضته لسياسة أوباما تقريباً على كل الجبهات، اصطدم “بالنخبة الزرقاء” على تويتر منذ اليوم الأول، وأضحت سنواته الأربع معركة يومية على المنصة. وكردة فعل على سياسات أوباما، وصل أعداد أتباع الرئيس وقتها إلى 80 مليوناً، فضاهى أعداد أتباع أوباما تقريباً ودارت معارك “تويترية” عنيفة بينه وبين الأصوات الكبرى في معسكر الديمقراطيين وأخصامه في الكونغرس والإعلام وهوليوود. ووقفت إدارة تويتر على الحياد أولاً، لكنها كانت متضايقة من سيد البيت الأبيض بسبب هباته وهجوماته الشخصية على كل من انتقده. إلا أن معادلة غير مرئية كانت تتحكم بسياسة تويتر حيال ترمب وأخصامه. فمن ناحية كانت معظم الشركات الكبرى، وهي متعاطفة مع معسكر أوباما-بايدن، تهدد بالانسحاب إذا لم تخرج المنصة الرئيس الأميركي منها، وكان ذلك ليكون مكلفاً جداً لشركة تويتر، ومن ناحية أخرى خشت إدارة الشركة أنها لو اتخذت قراراً سياسياً بحق ترمب، فستخسر عشرات الملايين من المستخدمين وبالتالي تتكبد خسائر مع شركات الإعلان. إلا أن جاك دورسي ومجلس إدارته قرروا فصل ترمب عند اقتراب انتهاء ولايته وبعد خسارته للرئاسة. ومع خروجه ضعف صوت المعسكر المعارض لبايدن، وتململ الجمهوريون من ما وصفوه بـ “تحجيم” حساباتهم Shadow Banning.
إيران وتويتر
على صعيد الشرق الأوسط، استفادت إيران والحركات الإسلامية من تقليص تأثير ترمب ومعسكره على تويتر، لا سيما وأن إدارته قد شنت هجوماً على النظام خلال فترة الرئاسة وسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وبعد ذلك وضعت “الباسدران” على لائحة الإرهاب. وكذلك استفاد اللوبي الإخواني من الحرب التغريدية على ترمب، لا سيما بعد أن وجه هذا الأخير خطاباً لقمة الرياض في 2017 بضرورة مواجهة الإسلاميين الراديكاليين وإخراجهم من دوائر النفوذ في تلك الدول. وشارك اللوبيان، عبر تأثيرهما على شركات الاتفاق النووي وعلاقتها بتويتر ومؤسسات “السوشيال ميديا” الأخرى، لإخراج ترمب من مساحة التغريد. وأدى ذلك إلى سيطرة هاتين القوتين على ملفات عدة لدى الشركة حيال الشرق الأوسط. وظهر ذلك واضحاً عندما شنت “النخبة الزرقاء” حملات على التحالف العربي ومصر وإسرائيل خلال رئاسة ترمب. وبالرغم من أن اليسار الراديكالي هو المسيطر على التوجيه السياسي، فالقوى الراديكالية الشرق أوسطية لها الأولوية في تحديد الخطاب السياسي ولو بشكل متأن.
دخول إيلون ماسك
ولكن مع دخول أغنى رجل في العالم على الخط، تغير ميزان القوى، وإن لم ينقلب كلياً بعد. إذ خاض إيلون ماسك، صاحب شركات “تيسلا” و”ستارلينك” و”سبايس إكس” معركة قانونية طويلة وشرسة ليشتري تويتر بـ 44 مليار دولار. ولم يكن يُعرف الكثير عن ميوله السياسية إذ كان مسجلاً كمستقل، لكنه انتخب أوباما وهو لم يتدخل كثيراً في السياسة من قبل. إلا أنه بمجرد دخوله معترك شراء الشركة اصطدم بمجموعة التوجيه السياسي في المنصة، وقبل ذلك بمجلس الإدارة. فغيّر تركيبة المجلس وأخرج البيروقراطيين المسؤولين عن تحديد السياسة العامة للتغريد، وسيطرعلى مقاليد السلطة التنفيذية شخصياً بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.
وبدأ ماسك عملية “إصلاح” سريعة للشركة، على الصعيد التقني والتوجيهي. وقد اتهمه موظفون سابقون بأنه أقدم على خطوات مشبوهة داخل المنصة مما قد يضعفها في أدائها، وساندهم جزء من الإعلام الغربي والأميركي. وشحنت النخبة الزرقاء قدراتها ضده محاولة ردعه من الخروج عن “سلطتها المعنوية”. لكن رجل الأعمال الأول في العالم رفض الإذعان للطبقة الفكرية المسيطرة واستمر في تغييراته، وذهب أبعد من ذلك. خلق آلية استفتاء ليسأل “أهل تويتر” عن قرارات يريد اتخاذها إذا حصل على تفويض أكثرية المغردين. وفاجىء ماسك أخصامه فضاعوا ما بين المشاركة في الاستفتاءات أو مقاطعته، فخف تأثيرهم على المنصة. بعضهم أعلنوا انسحابهم ولكنهم لم يتمكنوا معنوياً ونفسياً أن يتركوا تويتر. فواصل ماسك تقدمه وطرح إعادة ترمب الى التغريد، وبعد حصوله على موافقة الأكثرية من المستخدمين أعاد ماسك الرئيس السابق إلى المنصة، لكن ترمب لم يقرر بعد إن كان سيغرد من جديد، فهو أيضاً لم يعتد بعد على أسلوب ماسك الصاروخي.
ووسع ماسك مواقفه السياسية، فطلب من الناخبين في أميركا أن يصوتوا للجمهوريين في الانتخابات النصفية “ليكتمل التوازن بين الإدارة و الكونغرس”. وقبلها دعا إلى وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، بغض النظرعن دعمه “السيبيري” لأوكرانيا “للدفاع عن نفسها و لكن ليس لإطالة الحرب”. أخيراً وليس آخِراً دعا ماسك لتوسيع قاعدة تويتر في الهند والبرازيل و الدول الآسيوية. وبدأ الرأي العام يشعر أن ماسك خرج من المجهول سياسياً وتحول بظرف بضعة أشهر إلى مرجع عالمي جديد.
المحور مستاء
إقليمياً استاء النظام في طهران من تويتر تحت ماسك لسببين أساسيين: الأول هو نشر اقمار اصطناعية “ستارلينك” في فضاء إيران ليسمح للمحتجين بأن يحصلوا على خدمة الإنترنت، مما يفتح ثغرة في سيطرة النظام على أنظمة التواصل. أما السبب الثاني فهو فتح “مساحة التغريد” للمعارضة الإيرانية، فدخلت بقوة إلى “الفضاء التويتري” وباتت تقود الاحتجاجات تحت بيرق “العصفور الأزرق”. وقد أدى هذا التحدي للوبي الإيراني إلى ضغط كبير على الإدارة لحثها على وضع ماسك في مكانه ومنعه من التأثير في السياسة. وصرح الرئيس جو بايدن بأنه “ربما ينبغي التحقيق بالموضوع”. إلا أن أي تدخل لوزارة العدل في هكذا ملف قد يفتح أبواب المجهول لما لدى أرشيف تويتر من ملفات كبيرة نائمة على الرف منذ 2007.
أميركا والعالم دخلا في عالم المجهول بعد أن فتحت “آبل” حرباً مالية على ماسك وتويتر، عبر سحب تطبيقات تويتر من هواتفها. فرد ماسك بأنه “سيصنّع هواتف بديلة”. هذه أول مرة في تاريخ الإلكترونيات الذكية حيث لن تتمكن السياسة من ضبط الإيقاع العالمي كما كان الوضع في السابق. إيلون ماسك اخترق الكوكب سياسياً عبر المساحة الافتراضية. هذا يعني إقليمياً أن النظام الإيراني الذي يواجه انتفاضة عميقة، سيتواجه مع قوة حديثة وسريعة لها تأثير على أميركا والعالم. لنرى…
اندبندت عربي