إن كانت حادثة مقتل الشابة مهسا أميني عقب احتجازها بواسطة «شرطة الأخلاق» على خلفية الحجاب غير المكتمل، أشارت إلى الظلم الواقع على النساء في ظل النظام الديني الإيراني، إلا أن المحتجين، المستمرين في التظاهر على مدى أسابيع، سرعان ما وسعوا دائرة الغضب، للتذكير بفشل النظام السياسي والاقتصادي، وبالمعاناة وانعدام الأمل اللذين يعيش فيهما الشباب. لاحقا وحين دخلت مجموعات عرقية كانت تعاني من التهميش على خط الاحتجاج، أصبح الأمر أكثر خطورة وفي حدود لا تقتصر على مناطق أو أنحاء معينة. الوضع اليوم يزداد حرجا، فحتى أولئك الذين كانوا يتحدثون عن ثبات النظام وخبرته في مواجهة احتجاجات مماثلة، أصبحوا قلقين الآن، بل وصل الأمر ببعض «المرجعيات» إلى النأي بأنفسهم عن سياسة القمع المفرط، التي لم تنجح سوى في زيادة الغضب.
كالعادة اتهم النظام الدول الغربية بالتورط في دعم الاحتجاجات، وهو أمر يصعب التحقق منه، حتى مع استعراض الإعلام الرسمي لشهادة فرنسيين واعترافهم بالضلوع في تنسيق حركة التظاهر. الأكيد هو أن الإعلام الغربي لا يخفي تضامنه مع الشارع الغاضب، وأمله أن تقود هذه الاحتجاجات لتغيير النظام. هذا الأمل لا يقتصر على الدول الغربية، فأغلب جيران إيران، خاصة من الدول التي عانت من تدخلاتها المباشرة أو غير المباشرة، يتمنون أن يتم استبدال النظام بنظام أكثر اعتدالا وأكثر اهتماما بشأنه الداخلي وبمعيشة مواطنيه، بل يمكن القول إنه يصعب التفكير، حتى حينما يتعلق الأمر بالحلفاء، في شريك حريص على استمرار نظام الولي الفقيه بشكله الحالي.
العلمانية لافتة براقة، لكنها كبيرة وواسعة، ويكفي أن نشير إلى أن علمانية عادلة ومتوازنة في علاقتها مع الدين، أصبحت مثار نقاش فلسفي وسياسي في الدول الغربية ذاتها
مع ما سبق إلا أن علم السياسة يخبرنا، أن العامل الخارجي ليس حاسما دائما حينما يتعلق الأمر بحدوث تغيير، فالأمر لا يدخل دائرة الخطورة إلا حينما يفقد النظام شرعيته الداخلية ومنطق بقائه، وهو ما يظن البعض أنه بدأ بالفعل، حيث تنقل مقاطع الفيديو، أن المحتجين صاروا يعبرون عن رفضهم لرموز المؤسسة الحاكمة وعلى رأسها المرشد الأعلى علي خامنئي، عبر الإساءة إلى صورهم ومجسماتهم، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى التجرؤ على الإساءة للإمام الخميني مؤسس «الجمهورية الإسلامية» نفسه، حيث تمكن محتجون من إشعال حريق في بيته وبث صور الحريق في وسائل التواصل الاجتماعي. تنقل المقاطع كذلك تجرؤا من نوع جديد يتمثل في الإساءة إلى طبقة «المعممين» وملاحقتهم في الشوارع، مع مناداتهم بأبشع الألفاظ في تقليل متعمد لمكانتهم وهيبتهم. مشاهد الإساءة إلى الحجاب تدخل في هذا الباب أيضا. يبدو الإعلام الغربي معجبا جدا بمظهر نزع الحجاب وحرقه، فهو يقرأ هذه الصورة، لا على أساس أنها تمرد سياسي على نظام كهنوتي فريد من نوعه في العالم الإسلامي، وإنما على أساس أنه يقدم شاهدا على النظرية الغربية التي ترى أن المسلمات هن في الأصل مجبورات على الحجاب وأنه بمنح الحرية لهن، أو بزوال السلطة الخارجية المؤثرة والضاغطة عليهن، فإنهن سرعان ما يخترن السفور. في الحقيقة فإن كثيرا من الشباب الإيراني لا يعيد فقط مساءلة الحجاب، وإن كان هذا هو أكثر ما يظهر لنا، لكن مسائل أخرى من قبيل اقتسام ثروة المواطنين ووضعها في جيوب أقلية تملك وحدها حرية التصرف بها، أو من قبيل تبرير زواج المتعة وجعله أشبه بوسيلة للتقرب إلى الله، أو من قبيل التناقض في المنهج بين رفع راية الإسلام والتقليل من شأن صحابة كبار، كل هذا، بجانب التفاوت الطبقي الملحوظ بين العوام الكادحين والمعممين المقربين من السلطة، كان يؤدي على مدى السنوات إلى كفر بهذه المدرسة، التي تحمل أصحابها على مواصلة حروب تاريخية وعبثية، تارة تحت راية أخذ الثأر لمقتل الحسين بن علي، وتارة بسبب الانتقام العرقي أو استعادة الأمجاد الفارسية. ما حدث في كأس العالم من رفض المنتخب الإيراني إنشاد النشيد الوطني كان لافتا أيضا، ففي الأحوال العادية لا يكون نشيد العلم مادة للخلاف، لكن لاعبي الفريق أرادوا إرسال رسالة مفادها، أن دولتنا مختطفة وأن نظامها لم يعد يمثلنا، وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذا الفريق تم اختياره بعناية لتفادي مثل هذا النوع من الإحراج، يمكن أن نعرف كيف أن الأمر صار واسعا وخطيرا.
ربما يستطيع النظام أن يصمد في وجه الاحتجاجات كما كان يفعل دائما، فبخلاف الجيش الجاهز للتدخل والقوات الأمنية الأخرى هو يمتلك «الحرس الثوري»، الميليشيا المرتبطة بالنظام بشكل عضوي، والتي سوف تستميت في الدفاع عن بقائه لأسباب، منها ما هو عقدي ومنها ما هو اقتصادي يتمثل في سيطرتها وتحكمها في ما يقدر بأكثر من نصف موارد البلاد. إلا أن هذا يجب ألا يمنع المهتمين من دراسة سيناريو السقوط المفاجئ وتأثير ذلك في المنطقة. هنا يجب أن نضع في الاعتبار ما استفدناه من خبرة عربية مفادها أن التغيير السياسي قد لا يقود الأوضاع بالضرورة لما هو أفضل بالنسبة لإيران، وإذا كان بالإمكان تلخيص كل الاعتراضات على النظام في أيديولوجيته الدينية، التي تجعله يدخل في معارك خارجية غير ضرورية وينفق الكثير من الأموال على تجنيد ميليشيات وكسب داعمين، كما تجعله يثير الغضب داخليا، بالتدخل في أكثر شؤون الناس خصوصية وبالتفريق بين الأديان والمذاهب، فإن السؤال المطروح سيكون: هل تحل ولادة دولة جديدة، «علمانية»، المشكلة الإيرانية؟ تبدو الفكرة، التي يدعو لها كثيرون في الداخل والخارج مغرية، ففي إيران وصل التشابك بين ما هو سياسي وديني حالة من التماهي، أصبحت العملية الديمقراطية بموجبها فاقدة للمعنى بعد أن حصرت المجال العام فيمن يدينون بالولاء لثوابت النظام العقدية. الفكرة مغرية أيضا أخذا في الاعتبار، أن إمكانية الإصلاح وفق البنية السياسية الحالية تظل شبه معدومة، فوصول صوت معارض بشكل حقيقي، أو ناقد نقدا جوهريا للنظام، لأي منصب مؤثر، يبدو مستحيلا في ظل «الفلترة» التي يتم بموجبها ترشح واختيار المتنافسين، ما يضع الناخبين أمام خيارات محدودة وأسماء قد تمثل وجهات نظر مختلفة، لكن ضمن التوجه العام. يجعل هذا من التفريق الشهير بين «الأصوليين» و»الإصلاحيين» أمرا بلا معنى حقيقي في الواقع.
دولة محايدة إزاء الأديان قد تكون مغرية أيضا للأقليات الدينية، التي ترى نفسها مظلومة ومهمشة في ظل الوضع الحالي، وهو ما يشمل أهل السنة الذين يرون أن نظام الحكم في الفترة التي سبقت العهد الخميني كان، مع وجود سلبيات فيه، أكثر انصافا لهم، حيث ساوى بينهم وبين غيرهم، وكان يمنحهم حرية أكبر في ممارسة شعائرهم. المشكلة تكمن في أن العلمانية هي لافتة براقة، لكنها كبيرة وواسعة، ويكفي أن نشير هنا إلى أن علمانية عادلة ومتوازنة في علاقتها مع الدين، أصبحت مثار نقاش فلسفي وسياسي في الدول الغربية ذاتها. في الحالة الإيرانية تخبرنا التجارب أن علمانية مشغولة بالتضييق على المتدينين وحرمانهم من حقوقهم السياسية، على طريقة بعض دول المنطقة، لن تعمل سوى على استمرار الاحتقان، وكذلك الحال بالنسبة لعلمانية لا تخفي انحيازها لعرق أو عقيدة، كما يحدث في بعض الممارسات الآسيوية.
لكل ما سبق فإن هذا السؤال هو أعمق مما يبدو لدرجة تصبح معه الإجابة المجردة بنعم أو لا غير كافية وغير موضوعية.
القدس العربي