الحرب في أوكرانيا، مهما تكن نتائجها، فعندما ستحط رحالها على الأرض، لتنتهي وتتوقف عن السير باتجاه الحل النووي؛ تكون قد غيرت العلاقة بين روسيا والغرب، ليس الآن فقط، بل مستقبلا أيضا.
من غير المحتمل أن تعود العلاقة بين روسيا والغرب إلى ما كانت عليه قبل هذه الحرب، وبالذات دول الاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، في ما يتعلق بالطاقة، النفط والغاز، وليس التجارة والاقتصاد وما إليهما، لأن العلاقة الروسية الأوروبية فيهما؛ مرهونة بتطورات المستقبل. دول الاتحاد الأوروبي لن تثق مستقبلا بروسيا، وهنا المقصود؛ فقد بدأت تلك الدول فعلا بتأسيس البنى التحتية لتستقبل الغاز من دول أخرى. وروسيا هي أيضا بدأت في تحويل تجارتها إلى الشرق والجنوب، وهذا يعني أن العالم على طريق التغيير في سلم الأولويات، وفي الشراكات وفي التجارة والاقتصاد، وما سيتبع هذا من تغييرات سياسية وتبدلات في المواقف والعلاقات بين الدول في العالم.
الصين هي الأخرى سيكون موقفها أقوى في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية في التنافس والصراع الاقتصادي، لأنها ستضمن جزءا كبيرا من حاجتها من الغاز والنفط من روسيا، وسبق أن أنشأتا خطين على الأرض؛ لنقل الغاز والنفط الروسي إلى الصين، أحدهما يعمل والآخر قيد الإنشاء قبل الحرب في أوكرانيا. روسيا والصين؛ عملتا على تعزيز وترسيخ شراكتهما الاقتصادية والتجارية وما يتصل بهما، أو ينتج عنهما من تعاون في مجال السياسية، سواء كانت البينية أو في الساحة الإقليمية والدولية، في الدعم والإسناد التخادمي والنفعي المتبادل. لكن هذا التعاون أو الشراكة لا يلغيان ولا يقللان من التنافس بينهما على النفوذ، بل العكس هو الصحيح، على الرغم من تخادم المصالح بينهما. روسيا تتوجس من الصين كونها المنافس القوي لها في حقل الاقتصاد والتجارة، ومشاريعها في هذين المجالين تؤدي في نهاية المطاف إلى تقليص المساحة المتاحة أمام روسيا، أو تآكل هذه المساحة مع تقادم الزمن، حتى في منظمة البريكس؛ النفوذ الصيني فيها يكاد ان يبتلع النفوذ الروسي. المسؤولون في الكرملين يعرفون هذا على وجه الدقة والتأكيد، لذا عملوا على تعزيز شراكتهما مع إيران وتركيا. اعتبر الروس أن العلاقة مع إيران مهمة جدا لها في الوصول إلى الأسواق في منطقة الخليج العربي، وإلى جنوب آسيا والمحيط الهندي، بالإضافة الي تركيا. طموح روسيا بوتين، لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن روسيا تريد، أو أنها تخطط لتشكيل كتلة اقتصادية من روسيا وتركيا وإيران في مواجهة التغول الأمريكي. المحلل السياسي والاقتصادي الروسي الاسكندر نازاروف في مقال له مؤخرا، على موقعه في التليغرام؛ أوضح هذا التوجه الروسي في مواجهة العقوبات الغربية، وفي الاستدارة التامة في التجارة والاقتصاد إلى جهة الشرق والجنوب. مبينا أن هذا التكتل الاقتصادي، كبير جدا؛ روسيا نفوسها 147 مليونا ونفوس إيران 86 مليونا ونفوس تركيا 83 مليونا، مجموعها 316 مليونا، فيما نفوس أمريكا 336، والاتحاد الأوروبي 446؛ ونفوس الصين معروفة، أي أن هذا التكتل سوق كبيرة جدا في مواجهة أمريكا، والكلام لم يزل للكاتب الروسي الاسكندر نازاروف. لكن الكاتب أغفل حقائق أخرى، ربما تعمل بالضد من هذا التوجه، ولو بصورة غير معلنة، أو أنها مخفية لضمان الفائدة والاستثمار التجاري والاقتصادي والتسليحي بين الدول الثلاث. من بين هذه الحقائق أولا، ربما أن إيران اليوم غير إيران الغد، وإيران الغد تختلف كليا عن إيران اليوم، إذا افترضنا افتراضا هذا التغيير، الذي هو لصالح أمريكا. ثانيا؛ دول الخليج العربي لم تزل تتوجس خطورة على كياناتها السياسية ونظمها من السياسة الإيرانية في المنطقة العربية، سواء في الخليج العربي أو في بقية دول الوطن العربي، إلا إذا تمت تسوية الأمور والأوضاع بطريقة ترضي جميع الأطراف، أو تطمئن بضمان سريانها على الأرض، إذا ما تم الاتفاق عليها، وهذا أمر بعيد الاحتمال في ظل الأيديولوجية الحاكمة للسياسية الإيرانية، إضافة إلى المصالح الأمريكية في هذه المنطقة، وهي مصالح بعيدة المدى والأمد. كما أن مصالح إيران تتقاطع مع مصالح روسيا في سوريا تحديدا، إيران بالإضافة لتوجهاتها الأيديولوجية؛ تخطط على الأمد المنظور والمتوسط والبعيد للوصول إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط عبر العراق، على أرضية مستدامة وراسخة، حسبما خططت له. والمثال الثاني هو التنافس والصراع الإقليمي بين إيران وتركيا على النفوذ في بعض دول الوطن العربي.
العلاقة بين تركيا وإيران وروسيا، غير ثابتة، أو على أرضية غير راسخة من المصالح المتبادلة، لأنها تتعارض كليا في الاقتصاد والتجارة والسياسة بينها
إن مسارات المصالح هذه متقاطعة وليست متوازية في سيرها لتحقيق مصالح الجميع، رغم المناورات السياسية، ومحاولات الاتفاق على خط سير وسط، يلبي مصالحهم مجتمعة، وقد فعلوا في اتفاقات عديدة سابقة، إنما هذه التوافقات تفتقر في الجزء الأهم منها إلى التطبيق الفعال على أرض الواقع، وإن حاولوا التغطية على هذا الإخفاق بغربال لا يحجب شمس الخلاف والاختلاف، ما أدى في الوقت الحاضر ـ وبسبب إخفاق الاتفاقات هذه، في تحقيق النتائج المرجوة منها ـ إلى إطلاق تركيا عمليتها العسكرية في شمال وشرق سوريا وفي شمال العراق (ولو أن الأخير لا يدخل عمليا ضمن هذه التوافقات)، التي ترجمت بما لا لبس فيه؛ اختلاف الأهداف في نتائجها ومنطلقاتها بين الدول الثلاث. وهذا يؤذن، ولو بعد وقت ما؛ بكسر هذه الشراكة، أو هذا التعاون بين الدول الثلاث لتقاطع مصالحها في المستقبل المنظور. هناك أمران يختلفان فيه سياسيا، الأول هو علاقة روسيا مع الكيان الإسرائيلي، وهي علاقة يشوبها الغموض وعدم الوضوح من جانب روسيا بوتين، لكن إذا نُظر لها بصورة عميقة؛ نلاحظ أن روسيا تغض الطرف عن تجاوزات الكيان الإسرائيلي، أو الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، وهذه لا يمكن أن تقوم بها إسرائيل من دون اتفاق أو ضوء أخضر روسي. كما أن روسيا من الجانب الثاني لم تجهز جيش النظام السوري بوسائل متطورة للدفاع الجوي، بما يجعل الغارات الإسرائيلية على سوريا مكلفة جدا، ليجبرها بالكف عنها بسبب تكلفتها. الكيان الإسرائيلي المحتل ظل يمارس هذا العدوان على مدار عدة سنوات على الأراضي السورية، بما فيها محيط دمشق العاصمة وحتى محيط القواعد الروسية في البحر والبر، على الرغم من المعاهدة السورية الروسية، التي بموجبها كان لروسيا وجود بحري وجوي على الأراضي السورية، بما سلب من سوريا الأسد قرارها السياسي المستقل.
إن السيادة السورية مجروحة، وأكبر دليل على هذا؛ تفاوض روسيا وإيران وتركيا من دون أن يكون للنظام أو من يمثله وجود فيها، بمعنى آخر أكثر وضوحا؛ أنهم يتفاوضون بالإنابة عن سوريا الأسد؛ على مصير الأرض السورية والشعب السوري في تلك الأرض، التي لم تزل خارج سيطرة النظام. هذه السياسة الروسية ترتبط بآفاق المستقبل لجهة علاقة سوريا الأسد مع الكيان الإسرائيلي، ربما، من خلال مقايضات واتفاقات مستقبلية. هذا هو ما يفسر؛ إصرار أمريكا على إبقاء وجودها العسكري في قاعدة التنف. تركيا على ما يبدو من سياستها في الفترة الأخيرة؛ تفهمت وفهمت اللعبة الإقليمية والدولية في المنطقة العربية، ليس في سوريا فقط، بل في كل الدول العربية المضطربة والفاشلة، وما يخطط لها في السر والعلن معا. فقد عملت على تحسين، أو إعادة علاقتها مع جميع الدول العربية والكيان الإسرائيلي المحتل، التي كانت قد اختلفت مع الدول العربية وإسرائيل، في وقت سابق، بما فيها مصر وحتى سوريا على صعيد المستقبل المنظور وهو ليس بعيدا من الآن. عليه فإن العلاقة بين تركيا وإيران وروسيا، علاقة غير ثابتة، أو هي على أرضية غير راسخة من المصالح المتبادلة، لأنها تتعارض كليا في الاقتصاد والتجارة والسياسة لكل دولة منهما مع الأخرى. روسيا ذاتها على الرغم من العلاقة الواسعة لجهة المصالح مع تركيا، لكنها تتوجس من سياسة تركيا في آسيا الوسطى، وبالذات في الدول الناطقة باللغة التركية، أو الدول التي أصولها تركية، وحتى داخل الجغرافية الروسية، خصوصا أن تركيا تحاول أن ترفع سقف منظمة الدول التركية من الاقتصاد والتجارة والسياسة والثقافة إلى حلف عسكري. وهذا، يؤدي في النهاية إلى أن تصبح علاقة الشراكة بين روسيا وتركيا؛ إذا ما أضفنا عضوية تركيا في الناتو؛ علاقة ملتبسة محكوما عليها بالانقطاع مستقبلا، حتى في ظل براغماتية صانع السياسة في الكرملين وصانعها في أنقرة، بصرف النظر عمن يكون في الكرملين وأنقرة. الأمر يصبح أو يكون التعامل معه ومع مخرجاته مختلفا كليا عندما تصبح المخاطر جدية في التأثير الجدي والحاسم على الجغرافية الروسية وفي القوقاز الروسي حصرا في ظل توجهات السياسة التركية في المنطقة القريبة المحاددة لحدود روسيا وفي الداخل الروسي بصرف النظر عن الذي يحكم في أنقرة.
القدس العربي