تشهد الشعوب الإيرانية منذ شهر أيلول 2022 موجة احتجاجات مستمرة اثر مقتل الفتاة الكردية الإيرانية(مهسا أميني) البالغة من العمر 22 سنة بعد اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق بتهمة انتهاكها لقواعد لبس الحجاب ، وكانت هذه الحادثة هي الشرارة التي ألهبت حماس الشعوب الإيرانية بكل انتماءاتها القومية والاثنية والمذهبية وحركت مشاعر المجتمع الإيراني بكل شرائحه الاجتماعية من طلبة وشباب وشابات وعمال وفلاحين وكسبة وحرفين وموظفين بحيث امتدت هذه التظاهرات لتشمل 130 قرية ومدينة و31 محافظة و27 جامعة وبادرتها الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام الإيراني بالأساليب القمعية والجسدية والقتل والتنكيل والاعتقال والمطاردات والمتابعات الأمنية وخلفت 375قتيل منهم 52 طفلا والآلاف الجرحى و 1582 معتقلا في سجون النظام ثم بدأت قوات الباسيج والباسدران بالانتشار في المدن والمناطق الكردية في سنندج ومهاباد وكرمتشاه واقتحامها من قبل الحرس الثوري الإيراني واعتقال 5000 مواطن كردي بحجة التحريض على الاشتراك في التظاهرات التي عمت أرجاء المدن الإيرانية وأكثرها كثافة في طهران واصفهان وتبريز والاهواز .
تميزت هذه الاحتجاجات والثورة الشعبية العارمة بانها اختلفت عن التظاهرات التي جرت في أعوام 2008 و2009 و2017 و 2019 و2021 التي كانت تحمل مطالب تتعلق بتحسين الأوضاع الاقتصادية ورفع المستوى المعاشي وإطلاق الحريات العامة وعدم تبديد ثروات البلاد في مشا ريع سياسية خاصة بالنظام الإيراني، إلا أن تظاهرات شهر أيلول الفائت اتسمت بأنها أصبحت تشكل حالة اجتماعية سادت الأوساط الإيرانية بأكملها وانطلقت لتعبر عن سخطها وغضبها من جميع رموز وأركان النظام ورفعت شعارات تطالب باسقاطهم والاقتصاص منهم وتدعو لرفض التمييز الاجتماعي بين الرجل والمرأه وتدخل السلطة الحاكمة في الحريات الفردية والاختيارات الشخصية داعية لمزيد من الحرية والحياة الكريمة وتحسين الأوضاع الاقتصادية ورفض حالة التهميش الإجتماعي والإفصاح عن حالة الاغتراب وانعدام الأفق المستقبلي الذي تعيشه الشعوب الإيرانية التي ابدت تعاطفا كبيرا ومشاركة فعالة في هذه الانتفاضة الواسعة التي لا زالت مستمرة وتتسع افاقها وتتمدد أماكنها لتجعل الأجهزة الأمنية عاجزة عن تقليص حدة الاحتجاجات او مواجهتها بجميع الأساليب التعسفية والقمعية حيث لا زالت طلائع الشعب تسعى إلى تأطير الانتفاضة وجعلها ثورة شعبية عارمة لا تقف عند مسارات معينة بل تنطلق في أجواء من الحماس والتغيير والإصلاح الجذري للواقع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد والرفض القاطع لسياسة النظام الإيراني والدعوة لاسقاطه ومواجهة بكل الوسائل والأساليب والأدوات التي تفضي إلى تغيير شامل في المشهد السياسي العام .
وأمام هذه الحشود الشعبية والأصوات الداعية للحرية والانعتاق من الظلم والاستبداد الاجتماعي لم تفلح أجهزة ومؤسسات النظام بالتعامل مع مطاليب وأهداف الشعوب الإيرانية بل أعلنت انها تتعامل مع مجاميع خارجة عن القانون لديها ارتباطات مع أجهزة مخابرات دولية وإقليمية وتسعى إلى عمليات تهدد أمن وسلامة البلاد ، وهذا ما دأب عليه النظام في جميع الاحتجاجات السابقة وهو ما لم يستطع فرضه في هذه الأيام بسبب العمق الحقيقي والدافع الجماهيري الذي اصطف مع شباب وشابات الثورة الإيرانية وتلاحم الجميع في مواجهة أجهزة النظام بحيث أدى الحال إلى تأييد دولي وتعاطف شعبي من معظم شعوب العالم مع حقوق وأهداف الشعوب الإيرانية، وهذا ما جعل النظام يعمل جاهدا على أحداث بعض الأزمات الدولية والإقليمية لصرف النظر عن حقيقة المعارضة الداخلية التي يعانيها وتعطيل حالة الدعم الخارجي والتعاطف الدولي مع الثورة القائمة ، فشرع بالقيام بالاعتداءات العسكرية على الأرض العراقية في عدة هجمات امتدت إلى أراضي إقليم كردستان العراق في الرابع عشر والعشرين من شهر تشرين الثاني 2022 بحجة وجود مقرات للمعارضة الكردية الإيرانية التي يتهمها بدعم وإسناد الاحتجاجات الشعبية في عموم وارجاء المدن الإيرانية فشرعت القوات البرية التابعة للحرس الثوري الإيراني باستخدام الصواريخ والمدفعية الثقيلة والطائرات المسيرة في اعتداء سافر وعدوان غاشم استهدف السيادة الوطنية العراقية في مدن كويسنجق وسيدكان التابعة لمحافظة اربيل وبعض المناطق شرق محافظة السليمانية والاستخدام العشوائي بقصف مخيم اللاجئين الاكراد الإيرانيين في منطقة بحركة بمحافظة اربيل وادت الى مقتل عدد من المواطنين وجرح آخرين مع نزوح 700 عائلة كردية من القرى القريبة من الحدود العراقية الإيرانية والأماكن التي تعرضت للقصف الجوي والمدفعي ، وتصعيد حالة المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية بالإعلان عن قيام النظام بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% ومنع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى ثلاث مواقع حول مدينة طهران يشتبه بقيامها بعمليات تخصيب لمادة اليورانيوم وهذا يعني استمرار النظام في سياسة التعنت والتسويف لإكمال مراحل المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني في العاصمة النمساوية فيينا وتصعيد حالة المواجهة مع جميع الأطراف ، وهو في هذه الحالة يسعى إلى تصدير ازماته الداخلية ومشاكله الاقتصادية ومواجهته لشعوبه المنتفضة وإبعاد الرأي العام واهتماماته عما يجري على الميدان الإيراني بافتعال المواجهة مع واشنطن وقصف ومهاجمة مواقع وأهداف داخل الأراضي العراقية.
يمكن النظر إلى أسباب التنوع في هذه المظاهرات الشعبية انها أصبحت تشكل صراع مفتوح وقابل للتجديد مع النظام الإيراني وتأخذ أبعاد كبيرة ومعاني دقيقة وتشكل عمقا فكريا وتحديا للسلطة الحاكمة وتلقي الأضواء على حقيقة المأسي والأزمات التي تعصف بالمجتمع الإيراني الذي يعيش 48% من أبنائه تحت خط الفقر و16 مليون شخص يسكن في مساكن عشوائية غير مسجلة وزيادة بالاحياء الفقيرة في عموم المدن الإيرانية وارتفاع نسبة التضخم الاقتصادي إلى 50% وضعف الإجراءات المالية بحيث انخفض الناتج القومي من 450 مليار دولار عام 2019 ليصبح 210 مليار في عام 2021 حسب تقارير و احصائيات البنك الدولي ولم تفلح جميع الإجراءات الاقتصادية التي اتبعها الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي في مكافحة الفساد وتحسين الأوضاع المعاشية وازدياد نسبة الفقر والبطالة مما أدى إلى تضاؤل الطبقة الوسطى في المجتمع الإيراني.
ومع تصاعد حدة المواجهة بين الشعوب المنتفضة والأجهزة الأمنية صوت مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة في جلسة خاصة يوم الخميس الموافق 24 من تشرين الثاني 2022 بشأن الأحداث الجارية في إيران على تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق حول الانتهاكات والأساليب القمعية المستخدمة ضد أبناء الشعوب الإيرانية المنتفضة ، كما تصاعدت عملية التعاطف من قبل المنظمات الإنسانية والمطالبة بمحاسبة النظام دوليا والدعوة إلى إيجاد ألية أمنية للتحقيق في الأحداث الداخلية ومسألة طهران عن استمرار حالة العنف التي تتزايد فيها ضحايا القتل والاعتقال والتعذيب الجسدي.
ان انتفاضة الشعوب الإيرانية أخذت تضرب في جذور النظام الإيراني وبدأت تلامس جوهر لنظام السياسي وتهدد مستقبله وبقاؤه على السلطة وأصبح الشباب الإيراني أكثر جرأة وشجاعة في مواجهة اساليبه القمعية وبدأ بالتصدي الميداني عبر الرفض الحازم لسياسة النظام ورموزه وبدأ بحرق صور خميني وخامنئي في عدد من المدن والساحات العامة رافضا الظلم الإجتماعي منددا بغياب العدالة الاجتماعية ورافضا الهيمنة التوسعية وسرقة خيرات وثروات البلاد.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية