غزة- أن تنتمي لقضية حتى الموت، هذا ملخص حياة الدكتورة جين كالدر في دعم الفلسطينيين، التي تركت من أجلهم بلادها أستراليا متوجهة إلى العاصمة اللبنانية بيروت، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن يستقر بها المقام في قطاع غزة، حيث شاركت أهله آلامهم ومعاناتهم، وفي أرضه دُفنت كما أوصت.
توفيت جين في غزة الاثنين الماضي، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ولُف جثمانها بالعلم الفلسطيني، الذي عشقت ألوانه الأربعة، ليبكيها كل من عرفها، حتى تزاحمت الأوصاف التي أُطلقت عليها، فكانت “عاشقة فلسطين”، و”أيقونة الإنسانية”، و”الأم الحنون”، و”ملاك الرحمة”.
إسرائيل تحرم ثلث أطفال غزة من حق العلاج.. أروى الدرديسي “يوم بالبيت ويومان بالمستشفى”
عاشقة فلسطين
جين كالدر أسترالية الجنسية من مواليد عام 1936، غادرت حياة الرفاهية والانفتاح وآثرت السفر إلى بيروت قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بحثا عن فرصة عملية لدعم القضية الفلسطينية، فالتحقت بالعمل متطوعة في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
واضطرت لمغادرة لبنان على إثر تطورات الاجتياح الإسرائيلي، وتوجهت إلى مصر لإكمال مسيرتها الإنسانية، ولتبدأ مرحلة جديدة من حياتها.
تقول عنها مريم أبو راشد، التي رافقت جين منذ عام 1986، “في القاهرة تعرفت عليها، وأسسنا معًا مركز التأهيل التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، الذي يختص برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة”.
ترأست جين مركز التأهيل في القاهرة حتى عام 1994، عندما أخذت قرارها بلا تردد بمرافقة الفلسطينيين العائدين إلى غزة مع تأسيس السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، وأقامت في منزل بالإيجار قرب مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة خان يونس، حيث وضعت حجر الأساس لها برفقة الراحل المؤسس فتحي عرفات، حسب أبو راشد.
وبكلمات يغلفها الحزن على رحيلها، قالت مريم أبو راشد -للجزيرة نت- “كانت فلسطينية أكثر من فلسطينيين كثر، تؤمن بعدالة القضية، وتعشق أهلها، وتتودد للضعفاء والمحتاجين وذوي الاحتياجات الخاصة كما كانت تصفهم وتغضب لوصفهم بالمعاقين”.
وما كانت تمتلكه جين، الحاصلة على دكتوراة في التربية الرياضية، من مخزون طاقة وحب لهذه الفئة، جعلها تؤسس وتترأس مركز تنمية القدرات، وتعمل يوميًا على مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة ودمجهم في المجتمع، بلا كلل أو ملل حتى شارفت على العقد التاسع من عمرها.
وتقول مريم أبو راشد، وهي متقاعدة بعد سنوات من عملها أخصائية تأهيل في دائرة الصحة النفسية بوزارة الصحة الفلسطينية، إن وفاة جين -بعد عقود من العمل الإنساني- حفّزها وشجعها على اتخاذ قرار التطوع في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بداية من مطلع العام المقبل، لتسير على الطريق ذاته.
أم لأيتام حرب
لم تغادر جين لبنان بمفردها كما دخلتها، وأصرّت على مرافقة 3 أطفال أيتام فقدوا أسرهم خلال الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية مطلع الثمانينيات، فاصطحبت معها في رحلتها للقاهرة، دلال وبدر ومحمد، وبعودتها إلى غزة أقاموا معها في المنزل ذاته، وتكفلت بتعليم دلال، وزواج بدر، في حين وافت المنية عام 2008 محمد، الذي كانت تحب أن تناديه بـ”حمودة”.
آثرت جين عدم الزواج، ونذرت حياتها للعمل الإنساني، ورعاية وتربية الأطفال الثلاثة. وبصوت يعتصره الحزن والألم تقول دلال للجزيرة نت، “الآن فقط شعرتُ بأنني يتيمة، لقد كانت أمي جين صمام الأمان بالنسبة لي”.
كانت دلال طفلة كفيفة في الخامسة من عمرها عندما احتضنتها جين، وهي الآن مديرة التعليم المستمر ومحاضرة في كلية تنمية القدرات الجامعية في جمعية الهلال الأحمر، بعدما شجعتها “ماما جين” -كما تحب أن تناديها- على إكمال تعليمها الجامعي، ونالت درجة الماجستير في العلوم الإنسانية.
وقالت دلال إن غيابها خلّف لديها “فراغا كبيرا”، فقد “كانت سندي في هذه الحياة.. هادئة ومرحة، وتعطي بلا حدود”.
الدكتورة جين برفقة الفتاة الفلسطينية دلال التي تبنتها مع يتيمين آخرين وجميعهم فقدوا عائلاتهم في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (مواقع التواصل)
الهوية الوطنية والدينية
حافظت جين على ديانتها المسيحية، لكنها في الوقت نفسه كانت شديدة الحرص على محافظة أطفالها الثلاثة على دينهم الإسلامي، وأداء العبادات، وقد أهدت دلال في طفولتها مصحفًا بلغة برايل (لغة المكفوفين المطبوعة)، وكانت تشاركهم الصوم طوال شهر رمضان. وقالت دلال “منذ صغرنا غرست فينا حب الإسلام؛ كنا أطفالًا وأخبرتنا أننا مسلمون، وكانت تتابع معنا أداء الصلوات والعبادات”.
ما تمتعت به جين من صفات إنسانية كثيرة دفع الروائية الفلسطينية نجوى غانم إلى وصفها بأنها “أشبه بملاك”، وقالت نجوى للجزيرة نت، وهي التي عرفت الدكتورة جين عن قرب من زمالتها لدلال بالجامعة قبل 25 عامًا، “كانت تتمتع بدرجة كبيرة من الهدوء والسكينة واللطف”.
وفي غيبوبتها الأخيرة استيقظت جين وسألت دلال “هل تؤدين صلواتك خلال ساعات العمل؟”، فأجابتها: “نعم”، فردت بكلمة واحدة: “عظيم”. وقالت نجوى: “كانت حريصة على تعزيز الهوية الوطنية والدينية لدى أبنائها الثلاثة”.
وتعكف نجوى حاليًا على ترجمة كتاب صدر للدكتورة جين باللغة الإنجليزية بعنوان: “حيث يقود الطريق”، تحدثت فيه عن رحلتها مع المأساة الفلسطينية، واعتزازها بالطريق الذي رسمته لحياتها.
شهيدة الإنسانية
والطريق الذي اختارته لنفسها وماتت وهي متمسكة بالمضي فيه كان دافعاً للاحتلال الإسرائيلي لحرمانها من حقها في تلقي العلاج من سرطان القولون الذي اكتشفت إصابتها به عام 2020.
ولمدة 3 شهور، عرقلت سلطات الاحتلال حصول جين على تصريح مرور عبر حاجز بيت حانون (إيرز)، لتلقي العلاج غير المتوفر في غزة المحاصرة، ووضعت ابنتها دلال ذلك في سياق ما وصفته بـ”الانتقام الإسرائيلي من تاريخها الإنساني”.
اضطرت جين للسفر إلى مصر بحثًا عن العلاج، لكن الوقت كان قد تأخر واستشرى المرض في جسدها، فقررت العودة إلى غزة والموت فيها، وأوصت بدفنها في أرضها. وحسب دلال فإن العداء الإسرائيلي تجاه جين لم يبدأ مع مرضها، فلسنوات طويلة ظلت إسرائيل ترفض منحها التصاريح للسفر وزيارة أهلها في أستراليا.
لم تفكر في مغادرة غزة
ونعت لجنة متابعة العمل الحكومي التي تديرها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، جين، ووصفتها بـ”أيقونة من أيقونات العمل الإنساني الداعم والمناصر لقضيتنا الفلسطينية وحقنا في التخلص من الاحتلال”.
وقالت اللجنة -في بيان رسمي- “كرّست الراحلة حياتها لخدمة شعبنا وقضيتنا، لا سيما عبر عملها الطبي، وقد عملت لسنوات عميدة لكلية تنمية القدرات الجامعية بغزة، وتعد من المساهمين الأوائل في تأسيس الهلال الأحمر الفلسطيني (..) وبقيت وفيّة لشعبنا وقضيتنا حتى لحظات حياتها الأخيرة، وهي تصر على البقاء في غزة لمواصلة رسالتها الإنسانية”.
وقالت دلال “رغم الحروب والحصار، والحياة الصعبة هنا، فإن ماما جين لم تفكر يومًا في مغادرة غزة”.
المصدر : الجزيرة