يساور النظام التركي قلق عميق من جماعة الإخوان، وبات مسؤولون في أنقرة يتخوفون من أن تقدم عناصرها على أعمال انتقامية على خلفية التقارب الحاصل بين تركيا ومصر، وتخلي الرئيس رجب طيب أردوغان عن دعمها الفترة الماضية في مواجهة القاهرة.
تشير طبيعة الإجراءات التي اتخذتها الأجهزة التركية ضد عناصر وقادة الإخوان أخيرا إلى رغبة في استباق الأحداث قبل أن تتمكن الجماعة من صياغة خطة ثأرية تقتصر الآن على الشق السياسي من خلال دعم الخصوم السياسيين للرئيس أردوغان في انتخابات يونيو المقبل.
وأجرى جهاز الاستخبارات التركي تحقيقات مع قادة وعناصر نشطة بجماعة الإخوان على خلفية تنفيذ عمليات إرهابية سابقا في مصر، علاوة على تهم متعلقة بدعم تنظيم داعش في سوريا.
وشملت التحقيقات تهمًا بالتورط في غسيل أموال والتجسس على جاليات عربية وتجنيد ونقل مقاتلين إلى سوريا وليبيا وتوفير الدعم المالي واللوجستي لتنظيمات متطرفة تنشط على الأراضي السورية.
علاقات متردية
تؤكد خطورة الاتهامات الموجهة إلى قادة وعناصر الجماعة من قبل السلطات التركية المستوى المتردي الذي وصلت إليه العلاقة بين الطرفين، ويبدو أنها آخذة في مسار الشقاق وربما المفاصلة من غير رجعة.
قادة جماعة الإخوان شنوا حملة انتقاد وأطلقوا تهديدات، الشهر الماضي، ضد النظام التركي طالت أردوغان نفسه، رغم دعمه السابق لهم
وعالج قادة جماعة الإخوان الهاربين في تركيا خطأهم عندما خالفوا التوجيهات التركية، وحرّضوا على التظاهر في مصر في الحادي عشر من نوفمبر الماضي بخطأ أفدح عندما شنوا حملة انتقاد وأطلقوا تهديدات بالانتقام ضد النظام التركي طالت الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه.
وبدت الانتقادات الحادة التي وجهها ناشطو الإخوان ضد أردوغان ونظامه عقب حملة توقيفات ومداهمات شنتها أجهزته الأمنية ضد عناصر الجماعة إشارة إنذار على وجود إرهاصات لانقلاب للإخوان في الداخل ضد أعلى سلطة بعد أن كانت تعتبره في يوم من الأيام زعيمها وخليفة المسلمين.
الأجهزة التركية تعاملت مع هذه التطورات بما يناسبها من حذر وجدية وصرامة بناءً على خبرتها وإدراكها لتاريخ وطبيعة جماعة الإخوان، حيث لا تتورع عن الإضرار بأي طرف أو كيان تراه يهدد مصالحها حتى لو سبق أن جمعتهما علاقات تعاون وتحالف.
ولم يعد التعامل التركي مع جماعة الإخوان يحكمه مسار ملف المصالحة مع مصر، صعودًا وهبوطًا، وهو النمط الذي لم يتجاوز توقيف بعض القيادات وممارسة المزيد من الضغوط والتضييق على عناصر الجماعة.
وحدثت إجراءات جديدة قد تصل إلى الشقاق على خلفية إصرار قادة وعناصر الجماعة بالداخل التركي على إفساد مسار المصالحة بين تركيا والنظام المصري عبر التحريض على التظاهر والحشد ضده، فضلًا عن التحريض على استئناف أعمال العنف والشغب في مصر.
كشف حرص أنقرة على المضي قدمًا في المصالحة مع القاهرة عن عدم وجود تراجع عن مسار التطبيع معها، وتصحيح ما كان يمكن وصفه بأنه “تهاون” مع ممارسات عناصر الإخوان الفترة الماضية.
وتجاوز تعامل تركيا مع الإخوان ذلك بعد استشعارها خطر الإخوان على النظام نفسه ورئيسه ومستقبل حزب العدالة والتنمية في السلطة.
وفتحت السلطات التركية الكثير من الملفات القديمة والجديدة على مصراعيها لتضرب قيدًا محكمًا على تحركات التنظيم الإخواني داخل البلاد، حتى لا يتمكن من تنفيذ تهديداته بالثأر سواء اقتصر على الانتقام السياسي بمناهضة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة أو توسع ليشمل أبعادًا أكثر عنفًا وخشونة.
وبعد حملة الهجوم والانتقاد التي شنتها عناصر جماعة الإخوان ضد أردوغان لم يعد الحديث يدور فقط كما كان في السابق حول فرضية إدراج البعض على قوائم الترحيل من تركيا أو السماح للبعض بالمغادرة إلى دول أخرى أو حتى تسليم البعض على ذمة قضايا جنائية لدول أخرى.
والآن تباشر السلطات التركية نفسها التحقيق مع عدد كبير من قادة وناشطي الإخوان في قضايا خطيرة تشمل دعم وتمويل داعش ونقل مقاتلين إلى بؤر الصراعات وغسيل أموال والتدبير والتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية داخل دول أخرى، ومن ضمنها مصر.
يندرج هذا المستوى الحاد من التعامل في إطار تأمين الداخل التركي تحسبًا لممارسات ثأرية من قبل جماعة الإخوان عبر المبادرة بلجم التنظيم وتكبيله من خلال تفعيل الشق القانوني والقضائي بشأن ممارسات تثبتها العديد من الأدلة والشواهد على الأرض.
وانخرطت جماعة الإخوان بعد أحداث ما عُرف بالربيع العربي في توطيد علاقاتها بفصائل السلفية الجهادية، ومختلف الطيف التكفيري المسلح بالمنطقة العربية، وفي مقدمته تنظيمي داعش والقاعدة للاستعانة بهما في تقويض مؤسسات الدول المستهدفة وإضعاف جيوشها.
ودعت أثناء توليها السلطة في مصر إلى القتال في سوريا، وباشر قادة بالجماعة وآخرون بتنظيمات حليفة لها حركة تسفير نشطة لمقاتلين مصريين لينضموا إلى التنظيمات التكفيرية المسلحة في سوريا.
ودلت الحيثيات وطبيعة الاتهامات التي وجهتها مؤخرًا الأجهزة التركية لقادة وعناصر الإخوان على تناغم وتنسيق أمني واستخباراتي مع الجانب المصري، حيث سبقت القاهرة في كشف الروابط بين الإخوان وداعش والقاعدة ودور الجماعة الأم في توجيه ودعم مجمل النشاط الإرهابي.
وكانت الأجهزة المصرية قد واجهت الحالة الإرهابية المتعاظمة بعد يونيو 2013 بقطع الرأس المحركة والداعمة والممولة لأجنحة النشاط الإرهابي التي بدأت تتوزع على مختلف مناطق الجمهورية.
وثبت للسلطات في مصر أن جماعة الإخوان تقوم بمهمة هندسة وترتيب وتنظيم وتمويل الأنشطة الإرهابية التي تمارسها مختلف الجماعات المسلحة في الداخل، مثل داعش والقاعدة وخلايا العمل الإرهابي الحديثة مثل “أجناد مصر” وغيرها والتنسيق بينها. وحرصت على تقويض الرأس المحركة للنشاط الإرهابي بمختلف أجنحتها وانتماءاتها ممثلة في جماعة الإخوان، ما يقود تلقائيًا إلى إضعاف الأفرع.
وجرى تصنيف جماعة الإخوان كتنظيم إرهابي وقبضت أجهزة الأمن في مصر على قادة الجماعة وفككت هيكلها التنظيمي حتى الصف الرابع، وجففت منابع تمويلها وصادرت أصولها الاقتصادية.
الاستخبارات التركية تجري تحقيقات مع الإخوان حول تنفيذ عمليات إرهابية في مصر، وتهم بدعم داعش في سوريا
وتم ذلك بالتوازي مع ما جرى من كشف لخلايا عسكرية جديدة للإخوان نشطت تحت إشراف القيادي بالجماعة محمد كمال، وأبرزها خلية “حسم” وخلية “لواء الثورة”.
تحطيم الهيكل
قاد تحطيم هيكل جماعة الإخوان التنظيمي والقضاء على الخلايا السرية المسلحة الجديدة إلى إضعاف حلفاء الجماعة من التكفيريين المسلحين، وكان سقوط الإخوان بمثابة سقوط عمود الخيمة بالنسبة إلى تلك المجموعات المسلحة في سيناء وفي القاهرة وعموم محافظات مصر.
والآن تحذو تركيا حذو مصر في أسلوب التعاطي مع جماعة الإخوان فور استشعار نظامها الخطر بعد الوقوف على ما يمكن اعتباره بداية لتمرد التنظيم ضد داعميه السابقين.
وصدر عن جماعة الإخوان في الأيام الماضية ما كشف هواجسها ومخاوفها إزاء مستقبل وجودها في تركيا على ضوء التطورات الأخيرة، حيث سارع قادتها إلى تغيير أسماء الشركات والكيانات التابعة للتنظيم خشية تعرضها للإلغاء أو التجميد من قبل السلطات التركية.
وعكست الإجراءات التركية ضد جماعة الإخوان التي تُعد خطوة مفصلية في علاقات الجانبين، عمق التحول الكبير الذي طرأ على معادلة العلاقات المصرية – التركية، وهو ما تأثرت به سريعًا جماعة الإخوان.
وشرع النظام التركي في إثبات حسن النية للقاهرة بعقاب محدود للجماعة على شغبها، ولم تقدّر جماعة الإخوان حاجة النظام التركي إلى تطبيع علاقاته مع خصومه السابقين، وخفض التوترات بتأثير من المتغيرات الدولية واشتداد المنافسة بين القوى العظمى والحرب في أوكرانيا وتقليص الولايات المتحدة لوجودها في الشرق الأوسط. ولم تقرأ أيضا المعادلة المتغيرة في الداخل التركي، فالمعارضة موحدة وأقوى من ذي قبل.
العرب