وسط تفاؤل مشوب بالحذر دخلت حكومتا بغداد وإقليم كردستان فصلاً جديداً من المفاوضات الرامية إلى فك عقدة خلافاتهما المتراكمة جراء التباين في تفسير مواد الدستور وغياب حلول للتسوية في بلد يعاني منذ عقدين صراعاً سياسياً وحالة استقطاب فرضتها تركيبته السكانية المتنوعة عرقياً وطائفياً.
فإلى جانب الخلاف حول حصة الأكراد في الموازنة الاتحادية يأتي الخلاف على صيغة إدارة النفط الكردي، إذ إن ملف المادة 140 من الدستور والخاصة بتسوية الصراع على مناطق النزاع بين الجانبين، وأبرزها محافظة كركوك الغنية بالنفط، يمثل أحد الملفات المستعصية على الحل، نتيجة مخاوف العرب والتركمان من ضمها إلى الإقليم الكردي.
وقد تزايدت هذا المخاوف أخيراً في ظل الحديث عن قيام تحالف “الإطار التنسيقي” الشيعي المقرب من إيران بإبرام مساومة مع الأكراد أفضت إلى تشكيل الحكومة الاتحادية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني.
مخاض عسير
وفقاً لهذه المعطيات فإن حكومة السوداني تواجه اختباراً صعباً في إمكان إيجاد صيغة حل متوازنة طالما فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة في تسويته، بخاصة أن الأطراف العربية والتركمانية ترفض بشدة الطموحات الكردية لضم كركوك إلى إقليم كردستان، وتتمسك بمطلبها في جعل المحافظة إقليماً تابعاً لحكومة بغداد.
ويزعم الأكراد أنهم تعرضوا في كركوك وجل مناطق النزاع إلى حملة تعريب ممنهجة إبان النظام السابق، بينما يتهم التركمان والعرب الأكراد بشن حملة معاكسة لتكريد مناطقهم بعد سقوط النظام عام 2003 من خلال جلب مواطنين من الإقليم وإسكانهم فيها.
وأثار الإعلان عن إعادة العمل بالمادة 140، الأسبوع الماضي، في أعقاب اجتماع لقادة “تحالف إدارة الدولة” الذي يشكل الغالبية النيابية ويضم القوى الرئيسة الكردية والشيعية المقربة من إيران باستثناء التيار الصدري، والسنية، اعتراضاً شديداً من قبل قوى تركمانية وعربية.
لا حل من دون توافق
“مشكلة كركوك معقدة، فمنذ 2003 لم تحل عبر وجود طرف أو طرفين في الإدارة”، وفق ما يؤكده عضو مجلس كركوك القيادي في الجبهة التركمانية علي مهدي صادق، الذي يرى أن “التجارب أثبتت عدم إمكان حل الأزمة إلا بتوافق الأطراف الثلاثة التركمان والعرب والكرد، لأن هناك خلافات دائمة ومستمرة في جميع المفاصل، وإبرام أي اتفاق بين أربيل وبغداد بغياب أحد الأطراف المعنية لن تكون له نتيجة، وهذا حتماً سيرفض بقوة”.
وفي الموقف من حصول الأكراد على وعود من قوى “الإطار التنسيقي” يعتقد صادق أن “الكرد كان من الأفضل لهم الاتفاق مع التركمان أولاً، لأنهم سبق أن اتفقوا مع قيادات تحالف الإطار في الحكومات السابقة من دون نتائج تذكر، ثم إنهم (الكرد) حتى لو اتفقوا مع الأميركان من دون التركمان فلن يحصلوا على شيء، لأن تجربة فرض السيطرة من جانب واحد فشلت مراراً”.
وأكد “عدم الممانعة في تطبيق المادة 140 من دون خروقات، لكن الإخوة الكرد أتوا بمواطنين من خارج سكان كركوك، واستولوا على ممتلكات الآخرين، وإذا كانوا يتبجحون بمسألة التعريب فإنه لا يجوز أن يمارسوا التكريد على حساب التركمان”.
وتختص المادة 140 بحل مشكلة المناطق التي تعرضت إلى تغيير ديموغرافي في فترة حكم الرئيس السابق صدام حسين، عبر ثلاث مراحل، هي التطبيع وإجراء إحصاء سكاني قبل خوض استفتاء لتحديد مصيرها، سواء بالبقاء ضمن إدارة الحكومة الاتحادية أو الانضمام إلى إقليم كردستان، لكن مراحل تطبيقها تعثرت جراء الأزمات السياسية والأمنية التي عصفت بالبلاد طيلة العقدين الماضيين.
مفاتيح للحلول
يطرح صادق حلاً يرضي المكون التركماني، وهو “إيجاد صيغة توافقية للإدارة من خلال بعثة الأمم المتحدة”، وتساءل عن سبب إثارة هذا التوتر مجدداً ما دامت القوات الاتحادية أثبتت فاعليتها بعدم حصول أي خرق أمني في مركز المحافظة.
وتابع أن التركمان “ليست لديهم شروط صعبة سوى تحقيق الشراكة في الإدارة بين المكونات، مع إعطاء الملف الأمني للقوات الاتحادية حصراً، لقد أخذ الكرد نصيبهم في تولي منصب المحافظ لمدة 14 عاماً، والعرب نحو خمس سنوات، فلماذا لا يكون للتركمان وهم مكون رئيس الحق في تولي المنصب؟”.
وتبدو وجهة نظر السكان العرب متقاربة مع التركمان في رفض عودة الأكراد إلى إدارة المحافظة وفق الصيغة السابقة قبل انسحابهم في خريف عام 2017، على وقع اتخاذ بغداد إجراءات ضد إقليم كردستان عقاباً لخوضه استفتاء للانفصال.
العودة إلى الوراء
من جانبه، يقول الشيخ برهان مزرهم العاصي عضو مجلس المحافظة عن المكون العربي، إن “المشكلة سياسية بحتة وليست اجتماعية، لأن لدينا روابط متينة مع الإخوة الكرد، وليس من السهل أن تتفكك، لكن واقعياً الكل عانى طويلاً من المادة 140 التي انتهت مهلتها دستورياً عام 2007، أما الخلاف في شأن بعض القضايا مثل مسألة ملكية الأراضي وغيرها فإنه يمكن حسمها عبر القضاء، فلا يمكن التعويل على الاتفاق بين حكومتي أربيل وبغداد حصراً لأنه غالباً ما يلبي مصالح أطراف بعينها على حساب آخرين”.
وشدد العاصي إلى أن “كركوك تعيش استقراراً جيداً، ويبدو أن هناك محاولة للعودة إلى المربع الأول”.
ويرى سياسيون ومراقبون أن الصراعات السياسية كانت على الدوام حائلاً دون أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من حل الملف، فالقوى الشيعية والسنية ترفض منح الأكراد الغالبية في هذه المناطق بخاصة كركوك، على حساب ثقل العرب والتركمان الذين يتمسكون بالبقاء تحت سيطرة الحكومة الاتحادية، وعليه فإن القوى في بغداد قد لا تذهب بعيداً في المساومة مع الأكراد سوى على ملفات أدنى أهمية، منثل السماح للحزب الديمقراطي بإعادة فتح مقاره ومنح مناصب إدارية للقوى الكردية، وكذلك نشر قوات عسكرية وأمنية مشتركة لملء الفراغات الأمنية، مما يعني أن الخلاف حول النقاط الجوهرية على تطبيق المادة فعلياً سيستمر.
إصرار على الرفض
تساءل العاصي عن المغزى من محاولات إعادة قوات أو أجهزة أمنية كردية إلى كركوك “على رغم أنها تنعم بسيادة القانون، بينما لا تزال مناطق في إقليم كردستان في حاجة إلى قوات كردية أكثر مما تحتاج إليه المحافظة، فالإقليم الذي تتواجه فيه قوات أجنبية لديه توترات أمنية على الحدود مع إيران وتركيا، كما أنه يعاني خلافات داخلية”.
بناءً على هذه الرؤية استبعد العاصي “عودة البلاد أو كركوك إلى الحال التي خلقتها ظروف ما بعد عام 2003، عندما جاءت القوات الأميركية ودخلت معها القوات الكردية، وحتى المواطن الكردي في المحافظة تغيير، والآن كل فرد يبحث عن الاستقرار لتأمين مصالحه وضمانة معيشته”.
وختم قائلاً إن “المادة 140 فشلت في تحقيق أي تقدم لنحو عقدين، لأنها وجدت لخلق الفتن، وإلا ما معنى إثارة قضايا مضى عليها عقود، فعلى سبيل المثال كان والدي وأجدادي يملكون مقاطعات زراعية شاسعة فهل يجوز أن أطالب بها اليوم وفق قوانين كانت سائدة قبل عقود؟”.
يأتي ذلك في وقت تتحدث وسائل إعلام كردية عن انتشار كثيف للقوات الأمنية (الأحياء الكردية فقط)، وأفادت بأن هذه القوات “تنفذ عمليات ليلية في الأحياء وتقوم بنصب سيطرات خلال النهار”، مما دعا القوى الكردية في المحافظة إلى مطالبة رئيس الجمهورية عبداللطيف رشيد “بالتدخل لوقف الانتهاكات الدستورية والقانونية التي تمارس ضد سكان كركوك، بخاصة الكرد، وإنهاء حال عسكرة المحافظة، ووقف التمييز بين أحيائها ومناطقها من النواحي الإدارية، وتسليم الأمن إلى الشرطة المحلية من أهالي المحافظة وإخراج قوات الجيش والحشد الشعبي”.
التهرب من الإقرار بالغالبية
في المقابل ينفي الأكراد مزاعم انتهاء مهلة تطبيق المادة بقرار صدر عن المحكمة الاتحادية العليا عام 2019 “كونها لا تزال نافذة إلى حين إكمال تطبيق فقراتها الرئيسة”، وفق عضو لجنة الأقاليم والمحافظات النيابية عن كتلة الحزب “الديمقراطي الكردستاني” شيروان الدوبرداني، الذي شدد على “أهمية تطبيق الدستور من دون انتقائية، لا كما تريد بعض القوى السياسية”.
ويقول الدوبرداني إن “آلاف العرب قبل الكرد حصلوا على تعويضات من خلال بعض خطوات تطبيق المادة، ومن الغرابة أن عملية تعويض المتضررين استمرت في مناطق الوسط والجنوب، بينما علقت في مناطق النزاع”.
وتساءل، “لماذا التخوف من مطلب ضم كركوك إلى الإقليم ما دام أبناء المحافظة سيختارون مصيرهم عبر استفتاء رسمي، ألا يدل ذلك على أن الكرد يشكلون الغالبية؟ ثم إن هذا ليس انفصالاً، فما دام الإقليم جزءاً من العراق، فإن المسألة لا تتعدى كونها إدارية”.
الجدير ذكره أن رئيس الكتلة التركمانية النيابية أرشد الصالحي اتهم القوى الكردية الرئيسة عقب قرار إعادة تفعيل المادة “بالسعي إلى السيطرة على نفط محافظة كركوك على رغم أن المادة فشلت في تحقيق شيء بعد مرور 20 عاماً”، محذراً من أن القرار “من شأنه إشعال حروب عبثية وتمزيق وحدة النسيج المجتمعي”.
تعثر خارج عن الإرادة
في الموقف من تصريحات الصالحي قال الدوبرداني إنها “مزايدة سياسية تطلق في العادة مع كل مناسبة لتأجيج عواطف المواطنين، ثم إن فشل تطبيق المادة كانت له أسباب موضوعية، وليس كما أشار الصالحي إلى أنها فشلت لعدم جدواها، فقد مرت البلاد بحرب طائفية مزقت النسيج العراقي والوضع الأمني بشكل عام، ومن ثم احتلال تنظيم (داعش) لثلث مساحة البلاد، ومن بعدها ظهور جائحة كورونا، ونرى اليوم أن الظروف باتت ملائمة لتطبيقها”.
وفي مضامين صيغة عودة الأكراد إلى كركوك يوضح الدوبرداني أنها “تتعلق بإعادة فتح مقار حزبنا الذي كان انسحب احتجاجاً على دخول الجيش وقوات الحشد الشعبي في أحداث عام 2017، واليوم من حقه كأي حزب سياسي استعادة مقاره من القوات التي تشغلها اليوم، أما عودة قوات البيشمركة فستكون ضمن الاتفاقات، وهناك قوات مشتركة، وتم تشكيل اللواء 20 لمسك الفراغات الأمنية بين الإقليم وبغداد”. وأبدى الدوبرداني دهشته إزاء مخاوف العرب والتركمان من عودة البيشمركة والأجهزة الأمنية الكردية إلى المحافظة، قائلاً “أليست البيشمركة جزءاً من منظومة الدفاع العراقية دستورياً؟”.
لكن الرئيس السابق لـ”لجنة المادة 140″ رائد فهمي أقر في تصريحات صحافية بأن القوى السياسية “تفتقر إلى الإرادة للمضي في تنفيذ فقرات المادة إلى أبعد من مرحلة التطبيع، لأن بقية المراحل يلفها الغموض”.
اندبندت عربي