بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، توجست دول مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا من أن تلاقي المصير نفسه بعد أن نالت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، فهذه الدول ما زال يسكنها عددٌ ليس بالقليل من السكان الناطقين بالروسية، وهذا ما يجعل من هذه المنطقة بؤرة قابلة للانفجار في أي لحظة، خصوصا عندما تتقاطر قوات من حلف شمال الأطلسي (ناتو) في كل لحظة تحس فيها أن الدب الروسي يتململ في حوض بحر البلطيق.
ليتوانيا.. واسطة العِقد وعنوان التوازن
لا يعني وجود أفواج من السائحين التقطتهم كاميرا مخرج فيلم “البلطيق والدب الروسي” –وهو من سلسلة عالم الجزيرة الذي أنتجته الجزيرة- في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا الجميلة؛ أنها باتت في مأمن من الخطر الروسي، فالبلاد تستعد -بمعاونة الأصدقاء في حلف الناتو- لأي تدخل محتمل من القوات الروسية، والمناورات التدريبية العسكرية تجري بانتظام على الأراضي الليتوانية قرب الحدود.
ولا يقتصر الأمر في التأهب والجاهزية لدى القوات المسلحة فقط، ولا حتى باستدعاء الشباب من سن 19 سنة إلى التجنيد الإجباري، بل إن التوعية والتعبئة النفسية تكاد تطال كل السكان بمن فيهم الأطفال في المدارس، وذلك بنشر الكتب والنشرات التحذيرية والتثقيفية في حال حدوث أي تحرك روسي.
من جانبها تنشط روسيا في بث دعاية تحريضية نشطة عبر وسائل إعلامها الموجهة إلى الأقلية الروسية في ليتوانيا، حيث يبلغ عدد السكان الناطقين بالروسية في ليتوانيا نحو 7% من إجمالي عدد السكان، وهذا رقم بسيط إذا ما قارناه مع الأقلية الروسية في لاتفيا المجاورة، حيث يشكل الناطقون بالروسية ما نسبته 40% من سكان هذه الدولة.
وبينما يعيش اللاتفيون ذكرى التاسع من مايو/أيار كل عام على أنها ذكرى احتلال العاصمة ريغا من قبل القوات السوفياتية، فإن الأفراح تعم الأقلية الروسية التي تَعتبر هذه المناسبة عيدا لانتصار السوفيات على القوات النازية.
لاتفيا.. برميل بارود وعود ثقاب
وفيما تم استيعاب الأقلية الروسية في ليتوانيا ودمجها في الحياة بشكل عام، فإن صعوبة كبيرة تواجه الروس اللاتفيين في الاندماج بشكل اعتيادي، فمعظم الروس هناك لا يتقنون اللغة اللاتفية أصلا، وهذا يقف عائقا أمام تجنيسهم، فتجد أكثرهم من فئة “البدون” الذين لا يحملون الجنسية اللاتفية، ويبلغ عددهم 300 ألف على أقل تقدير. وعلى الرغم من أن 40% من اللاتفيين يتحدثون بالروسية، فإنها لغة غير معترف بها في البلاد، ناهيك عن المعوقات الجسيمة التي تضعها الدولة أمام فتح مدارس للروس هناك.
ولا تتوقف الحرب الدعائية والتحريضية بين السياسيين من كلا الطرفين، ففي الوقت الذي يثير فيه الرئيس اللاتفي الشكوك إزاء ولاء هذه الأقليات لبلدهم لاتفيا وأنهم يتلقون دعما معنويا وماديا من روسيا، لا يتوقف المسؤولون الروس عن المناداة بتطبيق لوائح حقوق الإنسان على فئة “البدون” في لاتفيا والإسراع بمنحهم الجنسية اللاتفية.
وعندما يتغنى اللاتفيون بقوة حلف الناتو ويتفاخرون بأن بلدهم عضو فيه، فإن الروس يبدون قلقهم الشديد من وجود هذه القوات على الأرض اللاتفية، ويقولون: لماذا يحشدون قواتهم على باب بيتنا؟ ما الذين أضاعوه هنا عند باب بيتنا؟
رئيس بلدية العاصمة ريغا السيد “يوشيكوف” صاحب الأصول الروسية ورئيس أكبر حزب سياسي في لاتفيا، لا يخفي إعجابه بالرئيس بوتين، ويعتبره الحل الأمثل للروس في لاتفيا.
وقد بدأت الشكوك تحوم حول “يوشيكوف” عندما سُجلت زيارات متتابعة له إلى السفارة الروسية، والتُقطت له صور مع ما يحتمل أنهم جواسيس روس، لكن هذا لم يزعزع أبدا من شعبيته كسياسي لامع، بل إنه لو أتيحت له فرصة أن يصوت لصالحه “البدون” لأصبح دون شك رئيس الحكومة اللاتفية، حتى إن صحفي التحقيقات الذي نشر قصة تواصله مع المخابرات الروسية قد لقي من الأذى الجسدي والنفسي الشيء الكثير، بل إن موقعه الإخباري قد تم اختراقه عدة مرات، مما يوحي بأن الروس هناك يشكلون بالفعل دولة داخل الدولة.
السيدة “شدونيكا” وهي أيضا من أصول روسية وعضو في البرلمان الأوروبي، لا تُخفي انحيازها للروس، بل إنها نظمت استفتاء في مقاطعة لاتغال ذات الغالبية الروسية على استقلال القرم أو انضمامها إلى روسيا، في إشارة إلى أمنياتها بأنه من الممكن أن تُتخذ نفس الإجراءات في هذه المقاطعة من أجل إعادة ضمها لروسيا.
إستونيا.. هدوء حذر
مدينة نارفا الإستونية على الحدود الشمالية الشرقية لإستونيا مع روسيا، هي كذلك بؤرة مؤهلة للانفجار، فهذه المدينة يسكنها مالا يقل عن 92% من الناطقين بالروسية في مقابل 3% فقط من الإستونيين. والواضح أن إستونيا قد استقبلت موجات من اللاجئين الروس الفارين من أوكرانيا، فضحايا الحرب التي لا تُخمد بين روسيا وأوكرانيا كثر، ولا يُخفي الروس في إستونيا تعاطفهم مع الدولة الروسية، وهم يعلنون بصراحة أن الولايات المتحدة هي السبب في تأجيج الصراعات القومية في هذه المنطقة.
وعلى الحدود الإستونية الروسية، وفي قرية صغيرة وادعة اسمها “ميكسية”، استيقظ الناس على خبر أشبه بالقصص البوليسية، فقد خرقت فرقة من المخابرات الفدرالية الروسية الحدود واختطفت مواطنا إستونيا اسمه “كوهفر”، ظهر فيما بعد أنه عميل تتهمه روسيا بالتجسس لصالح الاتحاد الأوروبي.
وكان رد الفعل الإستوني الرسمي غاضبا بشدة، واتهم روسيا بالتلاعب في أمن دول البلطيق، مما دعا قادة دول الاتحاد الأوروبي إلى شد الرحال إلى لاتفيا والدعوة من هناك إلى ضم أكبر عدد من الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي إلى أوروبا فورا، وكانت أوكرانيا حاضرة هي الأخرى بقوة في ملف القرم. غير أن ما يحدث خارج قاعات المؤتمر لم يكن بالضرورة مثل ما يحدث في داخلها، فقد تجمعت مظاهرات حاشدة من الناطقين بالروسية “البدون” ينددون بالتدخل الأوروبي في شؤونهم.
ومع مرور الوقت تتضح الصورة أكثر، ويظهر في تفاصيلها أن هذه الدول المطلة على البلطيق هي نقطة التماس الأشد بريقا على الخارطة الجيوسياسية بين روسيا وحلف الناتو بجناحيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وأنه ما لم تتحلَّ جميع الأطراف بضبط النفس والتعاطي السياسي الحكيم مع شؤون الأقليات القومية في هذه الدول؛ فإن الأوضاع ستكون مؤهلة لانفجار خطير لا تحمد عقباه.
الجزيرة