تتجمّع معطيات سياسية وميدانية تشير إلى أن تركيا ربما تكون أرجأت العملية العسكرية التي كانت تهدد بشنها ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الشمال السوري، في ظل رفض أميركي لها، ووساطة روسية لتسوية تلبي شروط أنقرة. فقد ساد هدوء شبه تام خطوط التماس بين مناطق النفوذ التركي ومناطق سيطرة “قسد” والنظام السوري في شمالي سورية، حتى عصر أمس الثلاثاء، بعد أيام من القصف لا سيما من الأتراك.
وكان نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، قد أعلن أول من أمس الاثنين، أن روسيا تواصل جهودها لثني تركيا عن شنّ عملية عسكرية برّية في سورية، وأن الحوار معها يبدو أنه حقّق نجاحاً. وقال بوغدانوف: “الحوار متواصل، لم تشّن أي عملية برية حتى الآن، ما يعني أنها نتيجة إيجابية بحد ذاتها”.
أردوغان وطلب دعم روسيا
بدوره، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه “ناقش اتحاذ خطوات مشتركة مع روسيا وطلب دعمها في شمال سورية”. وجاء كلامه بعد استقبال رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين، أمس الثلاثاء، في المجمع الرئاسي التركي بالعاصمة أنقرة.
في المقابل، أكد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أن بلاده لن تسمح أبداً باستمرار تواجد “العمال الكردستاني” في سورية والعراق، وأن أنقرة ستفعل ما يلزم لاقتلاع هذا التنظيم من هاتين الدولتين. وفي كلمة له أمام الجمعية العمومية للبرلمان التركي، أول من أمس الاثنين، شدّد جاووش أوغلو على أن “تركيا تواصل مساعيها الرامية للقضاء على الإرهاب على الصعيدين العسكري والدبلوماسي”.
أردوغان: طلبت دعم روسيا في شمال سورية
وأشار إلى أن الأجهزة الاستخباراتية التركية والتابعة للنظام السوري تواصل اتصالاتها منذ فترة، مضيفاً: “إذا تصرف النظام بواقعية، فنحن مستعدون للعمل معاً على محاربة الإرهاب والعملية السياسية وعودة السوريين”.
وأكدت مصادر مطلعة في الشمال السوري أن “روسيا تحاول إقناع أنقرة بإلغاء العملية في مقابل تعهد موسكو بإبعاد قسد عن الشريط الحدودي السوري مع تركيا”، مشيرة إلى أن الجانب التركي “يطالب بإبعاد العشرات من قياديي قسد التابعين بشكل مباشر لحزب العمال الكردستاني ويتولون مفاصل قرار في شمال شرقي سورية”.
وكانت تركيا قد أطلقت في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عملية “المخلب – السيف” ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية في شمال وشمال شرق سورية، بعد اتهامها بتدبير التفجير الذي وقع في إسطنبول في 13 نوفمبر الماضي، وأسفر عن 6 قتلى وعدد من المصابين، وهو ما نفاه المسلحون الأكراد.
وحشدت أنقرة عسكرياً في الشمال السوري لشن عملية برية، إلا أن التحركات الدولية خصوصاً من الروس والأميركيين حالت دون بدء هذه العملية. وعلى الرغم من إرجاء أو إلغاء العملية البرية، إلا أن الوقائع تؤكد أن الجانب التركي سيستمر في استهداف شخصيات ومواقع تابعة لـ”قسد” عن طريق المسيّرات.
وفي السياق، شرح المحلل السياسي التركي هشام جوناي، في حديث مع “العربي الجديد”، الأسباب التي دفعت تركيا ربما إلى إرجاء العملية العسكرية في شمال سورية. وقال: “الأسباب التي تدفع أنقرة إلى إلغاء العملية البرية كثيرة، لعل أبرزها الوجود الروسي الأميركي في الشمال والشمال الشرقي من سورية”.
وتابع أن “هناك اعتراضاً روسياً وإيرانياً وأميركياً على العملية التركية. واضح أن الدول الثلاث لا تريد أن تسيطر تركيا على المزيد من المناطق في سورية. هذا الأمر يقلق هذه الدول، المعترضة على خطط أنقرة في شمال سورية”. ولفت جوناي إلى أن الجانب الروسي “بدأ بإقناع الوحدات الكردية بالانسحاب من المناطق التي تطالب بها تركيا لتفادي العملية العسكرية، وهذا يصب في صالح الجميع ويحقن الدماء ويمنع حدوث انتهاكات جديدة في شمال سورية”.
وبيّن أن الوضع الداخلي في تركيا “يؤدي أيضاً دوراً في إلغاء العملية في الوقت الراهن”، مضيفاً أن “تكلفة العملية مرتفعة وغير مضمونة النتائج، وربما تستجر عقوبات أميركية على أنقرة، وهو ما يفاقم المشاكل الاقتصادية في تركيا. وهناك تروٍّ في أنقرة قبل اتخاذ أي قرار على هذا الصعيد”.
ودأبت أنقرة خلال الأعوام القليلة الماضية على “تحييد” أكبر عدد ممكن من قياديي “قسد”، خصوصاً المنتمين إلى “العمال الكردستاني”، وقُتل عدد منهم بينهم أتراك وإيرانيون أكراد، بقصف من الطيران التركي المسيّر على مواقع ليست بعيدة عن الحدود السورية التركية.
هشام جوناي: الأسباب التي تدفع أنقرة إلى إلغاء العملية البرية كثيرة، لعل أبرزها الوجود الروسي الأميركي في الشمال والشمال الشرقي من سورية
وتنظر أنقرة إلى “قسد” على أنها نسخة سورية من “العمال الكردستاني” الذي يتعرض لحملات عسكرية في العراق وسورية. وتطالب أنقرة بانسحاب “قسد” من ثلاث مناطق هي: تل رفعت في ريف حلب الشمالي، ومنبج وعين العرب في ريف حلب الشمالي الشرقي.
وحتى اللحظة، ترفض “قسد” مطالب أنقرة مستندة إلى موقف أميركي رافض تحييد هذه القوات التي تعتبرها واشنطن الذراع البرية للتحالف الدولي في محاربة تنظيم “داعش” في ما بات يُعرف بمنطقة شرقي الفرات.
منع العملية العسكرية التركية
ورأى الباحث السياسي إبراهيم مسلم، وهو مقرّب من “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سورية التابعة لـ”قسد”، أن “الوساطة الروسية والتدخّل الأميركي منعا العملية العسكرية التركية في شمال سورية”، معرباً عن اعتقاده في حديثٍ مع “العربي الجديد”، بأن الوساطة الروسية “حفّزت الأميركيين على التدخل كي لا تسحب موسكو البساط من تحتهم في شمال شرقي سورية”.
وأكد أنه “بالفعل هناك قائمة تركية تتضمن أسماء شخصيات تشغل مواقع قيادية في حزب العمال موجودة في سورية تريد أنقرة إبعادهم”، مشيراً إلى أن “لدى واشنطن تخوفاً من قيام تركيا بقتل قياديي قسد من أكراد سورية كما فعلت عدة مرات من خلال الطيران المسيّر”.
العربي الجديد