تؤكد أجهزة النظام الإيراني أنها استطاعت السيطرة على الاعتراضات الشعبية في الشارع، أو ما تسميه “أعمال شغب”، وربما تكون حققت ذلك واستطاعت عملياً وميدانياً أن تنهي موجة الاحتجاجات، مستخدمة جميع الوسائل من ملاحقة واعتقال وسجن ومحاكمة وإصدار أحكام الإعدام والقتل المباشر من دون تمييز بين فتاة وامرأة وشاب وطفل، كما فعلت مع حركات الاحتجاج والاعتراض السابقة وأكثر.
يعني ذلك أن النظام وأجهزته استطاعا فرض الهدوء والاستقرار بالقوة القاهرة، إلا أنه لا ولن يعني أنهما قادران على الذهاب عميقاً في تفكيك مصادر هذه الاحتجاجات وما يمكن أن تحمله من تهديد مستمر قابل للانفجار في أي لحظة وأمام أي أزمة، بخاصة أن هذه الاحتجاجات لم تعد محصورة بالطابع المطلبي اليومي والمعيشي، بل تحمل طابعاً تغييرياً لا يقبل بالإجراءات الشكلية والصورية.
وهي احتجاجات رفعت من سقف مطالبها ووضعت هدفاً لها يتخلص بالسعي الجاد نحو إحداث تغيير حقيقي وجذري في هوية النظام وتركيبته، أي إنها تسعى إلى الانقلاب على المنظومة الحاكمة والمؤسسة الدينية والداعمة للنظام، وإنشاء نظام جديد تنتجه الحركة التراكمية للفعل الاعتراضي الذي يمارسه الشعب بمقاومته في الشارع لتأكيد هويته الثقافية المدنية والعلمانية المختلفة عن هوية النظام وسلطته الدينية التي لن يكون لها ولا للقوى والجماعات التي تمثلها أو التي أنتجتها مكان في مستقبل إيران السياسي.
نظرياً، هذا ما ترغب فيه وتطمح إليه القوى السياسية والناشطون والمعارضون في الداخل والخارج الذين أعلنوا دعمهم وتأييدهم للحراك الشعبي الاعتراضي الذي تفجر بعد مقتل مهسا أميني واتسع ليتحول إلى تحد ثقافي وسياسي وهوياتي للنظام والمؤسسة الحاكمة وسلطتها الدينية، ووضعها أمام سؤال حقيقي حول صحة السياسات والآليات التي استخدمتها على مدى العقود الأربعة الماضية في إدارة مشروعها لأسلمة المجتمع وتوظيفه في السياق الذي يخدم سلطة الحكومة الإسلامية في صورتها الجمهورية، وحتى مصادرته خدمة لمشاريعها الاستراتيجية والتوسعية وعداءاتها مع القريب والبعيد من القوى الإقليمية والدولية.
إلا أن المتابعة المتأنية للحدث الإيراني وأداء قوى المعارضة، بخاصة المقيمة في الخارج، يكشف بوضوح عن عمق الهوة وبعدها بينها والحراك الذي تشهده إيران وموجة الاعتراض التي انطلقت بعد مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني، بخاصة في الخطاب الذي قدمته وحمل في طياته التراكمات السلبية لهذه القوى وما تعرضت له من قبل أجهزة النظام التي دفعتها إلى المنافي.
هذه “النوستالجيا” واعتقاد كل طرف منها بأنه “الأب الشرعي” للمعارضة والعمل للقضاء على النظام، شكلا عائقاً رئيساً أمام هذه القوى في التوصل إلى خطاب أو رؤية مشتركة حول بناء معارضة تتفق على آليات التعامل مع النظام، وتكون قادرة على إقناع الشارع الداخلي المنتفض بتبنيها وتحويلها إلى خطاب في مواجهة النظام وأجهزته وأدواته الثقافية والسياسية والقمعية.
يمكن القول إن الحراك الأخير الذي شهدته إيران، أفرز أنواعاً مختلفة من المعارضة لا توجد بينها نقاط اشتراك، بل إن الاختلاف بينها يبدو أكثر عمقاً من اختلافها مع النظام، بالتالي قدم من حيث لا يعلم أو يعلم، خدمة كبيرة للنظام، مما ساعده على الخروج من الإرباك والتخبط اللذين أصيب بهما في الأيام الأولى للحراك، وشعر بوجود خطر جدي يهدد بقاءه وسلطته وقدرته على استعادة المبادرة. بالتالي سمحت له بتصنيف المعارضة وجدولة أخطار وخطر كل واحدة منها وكيفية التعامل مع النوع الذي يشكل الخطر الحقيقي، في حين ترك الآخرين يتولون مهمة إضعاف بعضهم بعضاً، بما يوفر عليه عناء التصدي لها والتفرغ لإعادة ترتيب أوضاعه وأولوياته.
وإذا ما كانت المعارضة الداخلية التي يشكلها الإصلاحيون قد تمثل التحدي الأبرز للنظام والمنظومة الحاكمة، كون هؤلاء لا يعلنون عداءهم للنظام والدستور ويسعون إلى إحداث التغيير والإصلاح عبر الآليات الدستورية، فإن النظام سارع وقبل انفجار الشارع بعد مقتل مهسا أميني إلى التعامل مع مصدر الخطر الإصلاحي باعتقال الشخصيات المؤثرة والأكثر جرأة في تحدي النظام والمرشد كمصطفى تاج زاده وإرهاب الآخرين والتلويح لهم بإعادة فتح ملفاتهم القضائية.
وبعيداً من الإصلاحيين، فإن الشريحة التي شكلت العصب الرئيس للحراك من الجيل الجديد للشباب كشفت عن وجود هوية بينها وبين النظام وأجهزته الأمنية والثقافية، كونها لا تعترف بأي من المنطلقات الفكرية والثقافية والسياسية والأمنية التي يعتمدها النظام واستخدمها لمواجهة خصومه خلال العقود الماضية، وشعر بالعجز عن التعامل معها كونها لا تتحرك بناء على حسابات سياسية ولا تسعى إلى السيطرة على السلطة، وما يحركها هو رفضها للنظام والمطالبة بتغييره، فضلاً عن أنها غير مؤطرة في تشكيلات محددة ذات رأس أو قيادة واضحة يمكن السيطرة عليها من خلال اعتقالها أو استهدافها، حتى إن عمليات الإعدام التي قام بها النظام وسيقوم بها تجاه عدد من الشباب المشاركين في الاعتراضات لن تشكل عامل كبح لهذه الشريحة الشبابية ولن ترهبها أو تدفعها وتجبرها على التخلي عن مطالبها التي تقوم على منطق يختلف عن منطق السلطة والقوى المعارضة على حد سواء.
هذه الشريحة، وإن كانت شكلت تحدياً حقيقياً للنظام وأجهزته، إلا أنها قدمت خدمة له، إذ ساعدت في الكشف عن حجم المعارضة في الخارج وحجم قواعدها الشعبية داخل إيران والمجتمع الإيراني، وأنها بكل تشكيلاتها وأحزابها لا تملك أي تأثير في الحراك وغير قادرة على توجيهه بالاتجاه الذي يخدم مصالحها وأهدافها، فضلاً عن أن الحراك الشبابي أشعل الخلافات بين هذه القوى وكشف عن حجم الاختلاف بينها وعدم قدرتها على توحيد جهودها على خطاب واحد وهدف واحد وعجزها عن إنشاء مجلس للقيادة، بل حاول كل طرف من هذه المعارضة إظهار نفسه في موقع القيادة لهذا الحراك وإقصاء الآخر، الأمر الذي سمح للنظام بأن يأمن جانب هذه القوى ويطمئن لعدم قدرتها على تشكيل خطر جدي ضده، خصوصاً بعد تفجر خلافاتها وظهورها إلى العلن.
في المقابل، فإن النظام الذي يدرك أن قاعدته الشعبية تراجعت بشكل كبير ولم تعد تشكل أكثر من 10 في المئة من المجتمع الإيراني وترتبط به إما لموقف عقائدي أو مصلحي، يدرك أيضاً أن الشريحة الأكبر من المجتمع التي تشكل نحو 80 في المئة تمارس معارضة سلبية، أي إنها لم تدخل في الحراك ولم تخرج إلى الشارع، إلا أنها تعتبر المستفيد الأكبر من أي نتائج ربما يحققها الحراك أو تنازلات يقدم عليها النظام، كما حدث في مسألة الحجاب. وهذه الشريحة لا تشكل تحدياً للنظام طالما التزمت عدم الخروج وطالما أنها لا تحمل مشروع القوى المعارضة في الداخل والخارج.
اندبندت عربي