يدرك فلاديمير بوتين جيداً أهمية الرأي العام وما يمكن أن تفعله الضغوط الشعبية من تغيير في سياسات الحكومات. طبعاً هو لا يعير كثير اهتمام لهذه الضغوط في روسيا، حيث يغيب صوت الرأي العام عن مواقع القرار، لكنه يعرف أن الأمر مختلف في الدول الغربية، حيث الضغوط التي يعانيها جيب المواطن، تنعكس في الغالب ضغوطاً على الحكومات في صناديق الاقتراع. لذلك؛ يركز الرئيس الروسي الآن على جبهتين في حربه في أوكرانيا، بعدما فشل حتى الآن في تحقيق أغراضه من «العملية الخاصة» التي افتتحها في 24 فبراير (شباط) الماضي؛ الأولى هي جبهة الشعب الأوكراني مع قيادته، والأخرى جبهة الرأي العام الأوروبي مع حكوماته.
على جبهة أوكرانيا يدفع الرئيس الروسي شعبها إلى الاستسلام والضغط على رئيسه وحكومته لإنهاء الحرب بأي ثمن، والمطالبة بوقف الانهيار الذي تعانيه الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وتدفئة في صقيع فصل الشتاء البالغ القسوة، وهي الحالة التي تتفاقم نتيجة قصف روسيا المستمر لمحطات توليد الكهرباء، مستعينة بمسيّرات «شاهد» الإيرانية. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون حذر من خطة بوتين هذه في مؤتمر باريس الأخير لدعم أوكرانيا عندما قال، إن هدف روسيا من قصف المنشآت الحيوية والبنية التحتية هو إغراق الشعب الأوكراني في حالة من اليأس وتكبيد البلد نفقات ضخمة لإصلاح الأضرار.
لقد عجز بوتين عن فرض الهزيمة على الجيش الأوكراني طوال الأشهر العشرة الماضية، لكنه يشعر أنه قادر على فرض الهزيمة على الشعب الأوكراني وحرمانه من وسائل التدفئة والحاجات الضرورية، بعدما هجر ما يقارب 8 ملايين من أبنائه إلى الدول المجاورة التي احتضنتهم، وتدعوهم حكومة كييف الآن إلى عدم العودة، حتى لو كانت مناطقهم جاهزة لاستقبالهم، بسبب الضغوط على الخدمات الأساسية التي يصعب على الحكومة توفيرها هذا الشتاء. وقد أبلغ الرئيس زيلينسكي المؤتمر الذي عُقد في باريس أن 12 مليون أوكراني على الأقل يعانون من انقطاع الكهرباء، وقدّر تكلفة إعادة إصلاح الشبكة بمليار ونصف المليار دولار.
طبعاً، يجب الاعتراف بأن الشعب الأوكراني أثبت صلابة مشرّفة في الدفاع عن سيادة بلده في وجه الهجوم الروسي، رغم الضغوط الاقتصادية والمعيشية الكبيرة التي يتعرض لها. كما أثبت صلابة في دعم قرارات رئيسه وحكومته. لكن القدرة على تحمل المعاناة لها حدود، خصوصاً مع ارتفاع أعداد القتلى من المدنيين، الذين تقدر أعدادهم بخمسين ألف أوكراني، كما من العسكريين، حيث اعترف الرئيس زيلينسكي بأن عدد القتلى منهم يصل إلى 200 عسكري يومياً. أمام هذا الحجم الكبير من الضغوط يصبح السؤال عن المخرج من هذه الحرب المدمّرة سؤالاً طبيعياً.
هذا على جبهة أوكرانيا، أما على الجبهة الدولية، فحرب بوتين لا تقل إمعاناً في ضرب اقتصادات الدول ومستوى عيش سكانها. إنفاق بلا حدود من الدول الغربية على دعم أوكرانيا بالمال والسلاح، تشير التقديرات إلى أنه تجاوز 50 مليار دولار حتى الآن، في حين طلب الرئيس جو بايدن من الكونغرس الشهر الماضي تخصيص 47 مليار دولار للمساعدات العاجلة، وأقر المؤتمر الأخير في باريس دعم أوكرانيا بمليار دولار لمواجهة الحاجات المعيشية في فصل الشتاء. كما تتجه الولايات المتحدة الآن لتزويد أوكرانيا بمنظومة باتريوت المضادة للصواريخ التي تبلغ تكلفة كل منها 4 ملايين دولار. وكانت واشنطن قد رفضت سابقاً طلب كييف تزويدها بهذه المنظومة، كي لا تعدّها موسكو تورطاً أميركياً مباشراً في الحرب.
وفي وجه المعاناة الاقتصادية التي يشعر بها سكان القارة الأوروبية والتي انعكست ارتفاعات استثنائية في أسعار الطاقة وتكلفة المواد الغذائية، لم تشهد هذه الدول مثيلاً لها منذ 40 عاماً، لا تجد الحكومات سبيلاً سوى زيادة الإنفاق والمساعدات لدعم مواطنيها. وفي التقديرات، أن نصف تريليون يورو أنفقتها دول الاتحاد الأوروبي لتخفيف فواتير الغاز والكهرباء عن سكان هذه الدول خلال أشهر البرد المقبلة.
ومع تزايد موجة الإضرابات، مثل التي تشهدها بريطانيا هذه الأيام، لا تجد الحكومات ما يكفي لسد الحاجات وتلبية الطلبات، متذرعة بأن دعم الأوكرانيين ومواجهة الحرب التي يشنها بوتين عليهم، تستحق التضحيات؛ لأن انتصار الرئيس الروسي في هذه الحرب، لو تحقق، ستكون تكلفته أكبر بكثير على الأمن الأوروبي وعلى حياة شعوبه؛ مما يكلفه الدعم الذي تقدمه الخزائن الأوروبية اليوم لمنع هذا الانتصار.
غير أن الضغوط الاقتصادية لا بد أن تدفع الشعوب الغربية إلى السؤال: إلى متى سننفق على حرب أوكرانيا؟ كما تدفع الدول الغربية للبحث عن مخرج من هذه الحرب المدمرة.
في القمة الأخيرة بين الرئيسين الأميركي بايدن والفرنسي ماكرون تحدث الرئيس الأميركي عن احتمال الاتصال مع الرئيس الروسي لبحث إنهاء الحرب. قال بايدن، إنه مستعد للجلوس مع بوتين إذا كان مستعداً لإنهائها. كذلك، أكد ماكرون أن الدول الغربية لن تمانع في الحديث مع الروس عن إنهاء الحرب، لكنها لن توافق على أي تسوية إلا إذا كانت تحظى بموافقة القيادة الأوكرانية. والموقف نفسه يكرره المستشار الألماني شولتس، الذي اقترح في مقال أخير في مجلة «فورين أفيرز» ضرورة تجنب حرب باردة جديدة، وإعادة إرساء العلاقات الغربية – الروسية على أسس وقواعد شبيهة بما كان قائماً قبل عام 1989، من خلال علاقات قائمة على التبادل التجاري والمنافع المشتركة التي يحققها الرخاء الاقتصادي. وقال شولتس، إن الغرب مستعد للعودة إلى ما يسميه «النظام السلمي»، إذا كان بوتين مستعداً للتخلي عن غزواته الخارجية.
أمام عروض كهذه، يعرف الرئيس الروسي أن الأزمات التي يواجهها الغرب في اقتصاداته وظروف عيش أبنائه يمكن أن تشكل مدخلاً للمساومة. لذلك؛ صعّد شروطه، وطالب الدول الغربية بالاعتراف بـ«الحقائق الجديدة» على الأرض، أي ضم روسيا الأقاليم الأربعة الأوكرانية، علاوة على شبه جزيرة القرم، قبل البحث في أي تسوية. ويبقى أن يجد من يوافق على هذه المساومة، أي على القبول باجتياح روسيا لأراضي أوكرانيا، وعدم التورط في دفع تكلفة المواجهة رداً على هذا الاجتياح.
الشرق الأوسط