ترسم تقديرات مراكز الفكر والأبحاث العالمية والإقليمية صورة قاتمة للأوضاع الداخلية في إيران وسيناريوهات داكنة وبعضها مخيف لمستقبل النظام إذا لم يشهد سقوطاً مدوياً، بحسب توقعات مستقبلية وتعليقات لمعظم المراقبين المتخصصين في الشؤون الإيرانية.
ويرجح أكثر السيناريوهات تفاؤلاً أن تستمر الاحتجاجات خلال الأشهر المقبلة من عام 2023 مع انعدام فرص الوصول إلى اتفاق نووي بين طهران والقوى الغربية، حتى إن استؤنفت المفاوضات كسبيل لتخفيف التوتر والتصعيد الإقليمي.
كما ترجح جميع التقديرات انكماش الاقتصاد الإيراني وتباطؤ النمو وصعود التضخم، جنباً إلى جنب مع اتجاه المجتمع الدولي إلى إعادة تفعيل نظام العقوبات الدولية والأحادية المفروضة على النظام لمنعه من حيازة السلاح النووي من جهة، ومعاقبته على قمع المتظاهرين من جهة أخرى.
سيناريوهات مخيفة
يرسم نيكولاس بيلهام صورة قاتمة للأوضاع في إيران خلال العام المقبل، ففي تحليله بمجلة “إيكونوميست” البريطانية كتب عن سيناريوهين متطرفين تحت عنوان “آفاق النظام الإيراني في العام المقبل” يرى أحدهما أن النظام في طريقه إلى السقوط مما يفتح الباب لعودة المعارضة من الخارج ومحاكمة رموز النظام والبدء بتغييرات جذرية في السياسة الداخلية والخارجية الإيرانية.
ويقدم هذا السيناريو مشهداً درامياً لعودة المعارضين الإيرانيين من الخارج في مطار “الخميني” بطهران على أقصى تقدير خلال مارس (آذار) 2023 أي مع أعياد الربيع أو ما يسمى عيد “النيروز”، وهو عيد رأس السنة الفارسية والكردية أيضاً، مما يسترجع إلى ذاكرة المعارضين مشهد عودة الخميني للبلاد عام 1979.
السيناريو المرعب الآخر يتضمن فرار قادة النظام الإيراني إلى الخارج، بخاصة إلى بلدان عربية والصين، بينما تتصاعد ذروة الإثارة الدرامية مع هتاف المحتجين بمحاكمة رموز النظام الحاكم وإعدامهم، مضيفاً “سيكون الإيرانيون أقل تسامحاً ولن يرغب كثيرون في التفاوض مع المدافعين عن النظام القديم، إذ سيهتفون (للمحاكمة) في ما يواصل المتظاهرون التجمع في الشارع. أما بالنسبة إلى بعض الذين حاولوا التفاوض مع الإصلاحيين، فسيجبرون على الإدلاء باعترافات علنية”.
على أية حال يتوقع بيلهام في تحليله أن “من الصعب أن يسود حل وسط في إيران، أو أن يحدث تغير متطرف فيها سواء في اتجاه ثورة دينية أو علمانية”، ويقول “كثيرون سيرغبون في إيجاد طريق وسط، لكن بالنظر إلى الاستقطاب الإيراني سيكون المتشددون من كلا الجانبين أبعد من ذلك التدرج والوسطية. وأياً كان المنتصر فإن الرجال المسلحين سيكونون هم الضحية، إما كأوصياء للثورة الدينية أو العلمانية”.
لا اتفاق نووياً
يخلص معظم المراقبين إلى محدودية فرص إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية، وكتب في هذا الاتجاه زان سمايلي في “إيكونوميست” تحت عنوان “شبكة التحالفات المعقدة في الشرق الأوسط آخذة في التطور”، موضحاً أن “أي اتفاق سيكون بعيداً إذا بقي النظام الإيراني الحالي في السلطة (خلال عام 2023)، وفي حال تمكن بنيامين نتنياهو من تشكيل ائتلاف حاكم بعد الانتخابات الإسرائيلية، لكن إذا سقط النظام الإيراني في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة فإن التوترات المتعلقة بطهران ستقل، حتى إن إسرائيل ربما تدخل في محادثات مباشرة معها”.
ويتوقع أن تستأنف المفاوضات النووية مع القوى الغربية كوسيلة لتخفيف التصعيد، لكن سيظل سؤال العلاقات الروسية – الإيرانية في الميزان مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وتشير بعض التقديرات إلى زيادة حجم التجارة بين موسكو وطهران وعلى رأسها تجارة السلاح مع لجوء الروس إلى شراء معدات عسكرية وطائرات مسيّرة من إيران، لكن ستظل حرب أسعار النفط مؤلمة لطهران. وفي كل الأحوال سينعكس انحسار الحضور الروسي في الشرق الأوسط على إيران ما لم تنجح طهران في الاستدارة والتخفي تحت ظل جناح التنين الصيني بما يسمح لها بالتمدد تحت مظلة قوى كبرى أخرى بخلاف الروس في الشرق الأوسط مع توجه بكين إلى الدفع بثقلها نحو الشرق الأوسط لتعويض الانكماش الروسي واستغلال الانشغال الأميركي بالدائرة الاستراتيجية الآسيوية خلال العامين المتبقيين لإدارة جو بايدن في البيت الأبيض.
أما كبير المستشارين في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ريتشارد غولدبرغ، فيرى ضمن تحليل في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تحت عنوان “إذا أرادت أوروبا أن تعاقب إيران فهي تعرف ماذا تفعل” أن المجتمع الدولي سيتجه إلى معاقبة النظام الإيراني أكثر من أي وقت مضى، وذكر أن عقوبات الأمم المتحدة الموجودة بالفعل في السجلات تحتاج فقط إلى إعادة تفعيلها، داعياً إلى مواصلة العقوبات الدولية والأحادية المفروضة على النظام الإيراني، ليس فقط على خلفية البرنامج النووي ولكن أيضاً بسبب قمع المحتجين السلميين.
وتابع “بينما تدرس أوروبا حزمة أخرى من العقوبات التي تستهدف إيران بسبب حملتها القاتلة على المتظاهرين وتزويدها روسيا بالأسلحة، هناك أداة عقوبات جاهزة موجودة بالفعل، وسيؤدي تفعيلها إلى إرسال رسالة لا لبس فيها إلى طهران. وتتمتع بريطانيا وفرنسا وألمانيا بصفتهم مشاركين في الاتفاق النووي الإيراني، بالقدرة على اتخاذ الخطوة الأكثر أهمية على الإطلاق، أي العودة المفاجئة لعقوبات الأمم المتحدة الموجودة بالفعل”.
تعقيدات وتشابكات
تعكس معظم التقديرات للعام المقبل وضعاً اقتصادياً مؤلماً في إيران بسبب استمرار العقوبات وتوجيه مبالغ ضخمة للإنفاق على الأذرع الإيرانية في الخارج، فضلاً عن تراجع النمو الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم بسبب الأزمة السياسية في البلاد.
تحت عنوان “عام قاتم للاقتصاد الإيراني” يرجح تقرير لتوقعات عام 2023 أن يواجه الاقتصاد الإيراني تحديات يصعب التغلب عليها خلال العام المقبل، وذكر التقرير أنه “في موازنة الرئيس الإيراني للعام المقبل التي أرسلها أخيراً إلى المؤسسات المعنية لا توجد خطة واضحة لتنمية الاقتصاد أو معالجة التضخم. وعند التطرق إلى النمو الاقتصادي ومعدل التضخم استخدم عبارتين غامضتين ’النمو مع الاستقرار الاقتصادي والسيطرة على التضخم‘”، مفسراً ذلك بأنه إما أن تكون الحكومة خلصت إلى أن من الأفضل عدم التزام أرقام قابلة للقياس، أو أدركت أن لا صورة واضحة للاقتصاد الإيراني في العام المقبل.
الباحث في شؤون الشرق الأوسط والخليج أحمد الباز يرى أن عدداً من الظروف الخارجية والداخلية تكاتفت لتجعل 2023 عاماً صعباً على النظام الإيراني، فالتظاهرات التي لا تنقطع وباتت روتيناً يومياً وقوده مجموعات من الشباب ذوي الجرأة على عبور خطوط حمراء كخلع الحجاب أو إطاحة عمامات رجال الدين مما دفع النظام الإيراني وللمرة الأولى إلى الانصياع لمطالب المتظاهرين على مضض بإيقاف عمل “شرطة الأخلاق”، وهو القرار الذي من المتوقع أن يبني عليه المحتجون في استمرار تحركاتهم وتطوير أو ابتكار مظاهر رفضهم للسلطة أملاً في حيازة انتصارات متتابعة.
عوامل متشابكة عقدت الأوضاع الداخلية في إيران وفق الباز الذي أوضح لـ”اندبندنت عربية” أنه بالتوازي مع ذلك هناك أزمة اقتصادية طاحنة تواجه الاقتصاد الإيراني، ومن المتوقع أن تتحول الأسئلة في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وتصاعد معدلات التضخم نحو السؤال عن ثروة المؤسسات التابعة للنظام مثل “الحرس الثوري” والمؤسسات التابعة للمرشد الأعلى، مما قد يفتح “صندوق باندورا” ويفاقم الأوضاع غير المستقرة.
واستكمل الباحث “سوف تقفز التظاهرات نحو خطة العمل المشتركة التي يضع النظام الإيراني أملاً في الانتهاء منها، لكن الأوروبيين على وجه الخصوص سيكون عليهم التعامل مع سؤال حقوقي حول موقفهم من الاحتجاجات وعمليات الاغتيال والقتل والقمع ودورهم في الضغط على النظام عبر تعطيل التوقيع على خطة العمل المشتركة وربط التوقيع عليها بضبط طهران أسلوب تعاملها المتطرف مع التظاهرات”.
هل سيسقط النظام؟
أعرب الباحث أحمد الباز عن عدم اليقين في شأن سقوط النظام الإيراني خلال العام المقبل بالقول “لا يمكن تأكيد سقوط النظام بقدر التأكيد على أن مخرجات العام الماضي في البلاد أسهمت في الدفع نحو توحيد مطالب المعارضة الإيرانية، أي سقوط النظام الديني وإلغاء حكم رجال الدين، وأثمرت هذه التظاهرات عن ظهور مجموعات غير مسيسة يقودها شباب لم يدخلوا في العمل السياسي من قبل بما يجعلهم غير قابلين للاستمالة من أطراف وسيطة قريبة من النظام الإيراني، وهو ما يذكرنا ببدايات الربيع العربي عندما ظهر إلى الواجهة شباب غير مسيس فبدا أنهم لا يتحدثون باسم حزب أو طائفة.”
وتابع “ربما تكون هناك مناورة تقليدية من النظام الإيراني بالدفع بوجه يوصف بالمعتدل لامتصاص غضب الشارع وضمان ألا يتأثر رأس الهرم، وقد يبادر في لحظة ذكاء إلى منح الشارع مكاسب وهمية، ومن المتوقع أن يتم فتح الباب للقطاع الخاص من خارج مؤسسات (الحرس) والمرشد بشكل ما على أمل منح الاقتصاد بعض الاستقرار، كل ذلك لضمان الاستمرار”.
ويتوقع معظم المعنيين بالدراسات والتقديرات المستقبلية أن تستمر الاحتجاجات في إيران خلال العام المقبل أيضاً، وفي هذا السياق قال الباحث في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية بالقاهرة علي عاطف إنه خلال عام 2022 سادت موجة التحركات العارمة غير المسبوقة منذ 43 عاماً مختلف المحافظات والمدن الإيرانية، ومن المرجح أن تتواصل خلال الأسابيع الأولى من العام المقبل في ظل استمرار الغضب المحلي لدى المواطنين من حكم رجال الدين ومقتل وإصابة كثر في التظاهرات التي اندلعت في سبتمبر (أيلول) 2022 بسبب مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني. ويضاف إلى هذه الأسباب أيضاً استمرار العقوبات الدولية وتأثيراتها في الحياة اليومية للمواطنين الإيرانيين، مما قد يدفعهم إلى مواصلة الاحتجاجات.
صندوق النقد والبنك الدوليان قاما بتصحيح وتعديل تقديراتهما للتوقعات الاقتصادية لإيران في تقاريرهما الأخيرة. فوفقاً للبنك الدولي سيصل النمو الاقتصادي الإيراني إلى 2.9 في المئة عام 2023. وهذا التقييم أقل بنسبة 0.8 في المئة عن توقعه السابق، فضمن تقريره الصادر في يوليو (تموز) الماضي قدر البنك الدولي معدل نمو الاقتصاد الإيراني بنسبة 3.7 في المئة، بينما ذكر خلال تقريره الأخير أن معدل النمو الاقتصادي الإيراني عام 2023 سيصل إلى 2.2 في المئة مع استمرار المنحنى التنازلي.
سؤال القنبلة النووية
يرجح على نطاق واسع في معظم السيناريوهات التي اطلعت “اندبندنت عربية” عليها في مراكز الفكر والبحوث المعنية بالشأن الإيراني أن تستأنف مفاوضات البرنامج النووي الإيراني منعاً لوقوع حرب تستهدف ضرب المنشآت النووية الإيرانية ومنع طهران من صنع القنبلة الذرية.
وأوضح عاطف أنه على رغم أن المفاوضات النووية بين إيران والقوى الكبرى التي تجري في العاصمة النمسوية فيينا منذ أبريل (نيسان) 2021 تعثرت في أغسطس (آب) الماضي بسبب رفض طهران الكشف عن مزيد من المعلومات للوكالة الدولية للطاقة الذرية في شأن العثور سابقاً على آثار مواد نووية مشعة في عدد من المواقع النووية غير المعلن عنها، فإن من المرجح استئناف المفاوضات النووية بين هذه الأطراف في النمسا مرة أخرى خلال 2023.
يعود ذلك لإدراك مختلف الأطراف المشاركة في المفاوضات النووية أن عدم التوصل إلى اتفاق يعني مواصلة إيران أنشطتها النووية وتوصلها إلى سلاح نووي في أي وقت، إذ إن الهدف الرئيس من وراء الاتفاق، سواء ما تم التوصل إليه عام 2015 في لوزان بسويسرا أو الذي يجري التفاوض الأولي في شأنه بفيينا منذ أشهر، هو منع طهران من امتلاك سلاح نووي. وما يرفع حدة هذه المخاوف هو تطوير إيران أخيراً طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية يمكنها حمل رؤوس نووية، الأمر الذي يعني في النهاية أن البديل عن “اتفاق نووي” هو ضرب المنشآت النووية الإيرانية، أو ربما تطوير حرب ذات نطاق أوسع ضد إيران لمنعها من مواصلة هذه الأنشطة، وهو سيناريو محتمل تخشى إيران حدوثه، ويقودنا هذا بالتالي إلى ترجيح استئناف المفاوضات النووية خلال الأشهر المقبلة.
أين تتجه العقوبات؟
يرتبط مستقبل الوضع الاقتصادي في إيران خلال عام 2023 بشكل كبير بالتوصل إلى اتفاق نووي من عدمه خلال الفترة المقبلة، لذا فإن التوصل إلى اتفاق نووي سينعكس غالباً بصورة إيجابية على الوضع الاقتصادي في البلاد، وقد تسعى الحكومة الحالية في طهران إلى إحداث ذلك من أجل تهدئة الأوضاع المحلية، وفق عاطف الذي يرجح أن يتم تقليم أظافر طهران الخارجية من خلال انحسار نشاط الميليشيات الموالية لنظام المرشد والمنتشرة في بعض بلدان العالم العربي. وأشار إلى أنه “يمكن القول إن الحال الأمنية في بعض المناطق التي تشهد انتشاراً لميليشيات إيرانية داخل الشرق الأوسط ربما يذهب بعضها إلى التهدئة والأخرى إلى مزيد من التصعيد. فعلى سبيل المثال ربما لا نشهد مزيداً من التوتر من جانب الميليشيات المدعومة من إيران خلال الفترة المقبلة داخل العراق بعد تولي محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء في ذلك البلد وتراجع قوة مقتدى الصدر هناك سياسياً، لكن على الجانب الآخر ربما تعيش الساحتان اللبنانية والسورية تصعيداً أمنياً خلال الأشهر المقبلة مع رغبة طهران في زيادة الحضور هناك وسط انشغال الروس بأوكرانيا، علاوة على تزايد التوترات بين إيران وإسرائيل في هذه المناطق”.
الجدير بالذكر أنه منذ عام 2006 فرض مجلس الأمن عقوبات وقيوداً دولية متصاعدة على إيران خوفاً من تنامي أنشطتها النووية والصاروخية، لكن الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 قلب إطار عقوبات الأمم المتحدة على البلاد رأساً على عقب، إذ حدد قرار مجلس الأمن رقم 2231 أن حظر الأسلحة ينتهي في 2020 كما ينتهي حظر الصواريخ والعقوبات الفردية عام 2023. وعام 2024 ستبدأ القيود النووية الرئيسة المفروضة على إيران بالانتهاء لدرجة أن القرار خفف أيضاً من الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على تجارب إيران الصاروخية.
اندبندت عربي