يتردّد مثل هذا السؤال عند عراقيين كثيرين، منذ اقتيد بلدهم قبل عشرين عاما، بفعل قوى غاشمة، إلى طريق ضيقة المخارج، أنتجت واقعا مأساويا، كاد أن يتحوّل مع الزمن إلى مأزق تاريخي لم تعد تنفع معه المسكنات الماثلة. وقد حملنا السؤال إلى سياسي عراقي عمل مع المنظومة الحاكمة، ثم ارتدّ عنها، مفضّلا النأي بنفسه عما يجري، أجاب: “ما يحتاجه العراق هو نمط من الحلول الاستثنائية الخارقة للمألوف يبتكرها قادة تاريخيون قد لا يجود زماننا بهم. وبمراقبة ما يجري ويدور في ظلّ العملية السياسية الحالية، لا نتوقع أن يكون العام الجديد أفضل من سابقه، بل قد ينحدر الخط البياني أكثر فأكثر، خصوصا، وإن ما يتسرّب من الأروقة السرية يوحي بكثيرٍ من الشر للعراق ولأهله”.
“إن أفكارا شيطانية مثل تقسيم البلاد وشرذمتها قد تطفو على السطح من جديد، بعدما وجدت لها مناصرين من شيوخ عشائر، ومن يطلق عليهم تسمية (وجهاء مدن)، ممن يأملون أن يحقق التقسيم لهم حصة في غنائم متوقعة. وما يطرح في هذا المجال قد يأخذ صيغا ظاهرها بريء وباطنها فيه العذاب المقيم. الحديث يجري عن أقاليم بميزانيات وصلاحيات مستقلة، تتّحد فدراليا، وتضمن الأمن، وتوزع الثروة، ففي البصرة تعقد اجتماعاتٍ وتعدّ “مضابط” للمطالبة بانشاء إقليم. وفي الأنبار حراكٌ يقوده شيوخ عشائر وناشطون للهدف نفسه. وثمّة عودة عند برلمانيين موصليين لترويج مشروع إقامة إقليم يضمّ، إلى جانب الموصل، محافظات ثلاثا أخرى، وتطالب حكومة كردستان بغداد باسترجاع “الحقوق المغتصبة”، وضم كركوك إلى الإقليم. وفي كردستان نفسها همس أخذ طريقه إلى العلن عن تفكيك الإقليم إلى إقليمين، يتبع كل منهما واحدا من الحزبين الحاكمين هناك. وتفكّر جهات إقليمية ودولية في إحياء مشروع بايدن سيئ الصيت الذي أطلقه قبل أكثر عقد، عندما كان رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، والذي يدعو إلى إنشاء ثلاثة أقاليم على أسس طائفية وعرقية، وهي تجد في ذلك حلا لمعضلة العراق التي كبرت”.
“وثمّة متغيراتٌ في الداخل تخدم هذا التوجّه، أن الناس العاديين يبدون مستائين من الأوضاع المتدهورة، وهم يائسون إلى حد كبير في ظل عدم وجود إمكانية في المدى القريب أو المتوسط لنهوض دولة حقيقية من ركام الغزو والاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية المباشرة، وهم يدركون أن إيران نفسها ستجهض، عبر وكلائها المحليين ومليشياتها النافذة، أية محاولة جدّية بهذا الاتجاه. وتعيش هذه الشريحة الكبيرة من السكان في حال أدنى من خط الفقر، وقد أصبح اهتمامها الأساس حصولها على الخبز والأمان وخدمات الصحة والماء الصافي والكهرباء. ولذلك تبدو مستعدّة للرضا بصيغة التقسيم إذا ما توفرت لها القناعة أن تلك الصيغة سوف تضمن لها بعض ما تريده”.
كل الشعارات التي أطلقها السياسيون لم تعد سوى ترّهات لا تغني ولا تسمن، بل إن بعضهم يتمنّى لو عاد صدّام حسين ليحكمهم
“وربما تشجع إيران نفسها فكرة التقسيم، بعد أن أحكمت حلقات تغيير ديموغرافي في المدن العراقية على مدى السنين السالفة، وبمعونة وكلائها من الأحزاب والمليشيات، وحتى تركيا التي تراودها الأحلام السلطانية لن تكون بعيدة عن خطط كهذه”.
وسخر السياسي العراقي من وعود الأحزاب الحاكمة بادّعاء تجاوز الخطايا السابقة والعزم على أن تكون الحكومة المطلوبة “حكومة خدمة وطنية” كما أسمتها، كما سخر من طرح بعضها فكرة “الانتخابات البرلمانية المبكّرة” حلا للأزمة، مضيفا: “إنهم يسعون جاهدين إلى إعادة إنتاج العملية السياسية الطائفية التي دخلت صالة الإنعاش، في حين أن معظم الناس لم يعودوا في واقع الحال معنيين بصيغ ديكورية، مثل الانتخابات والبرلمان، وحتى الديمقراطية التي جرّبوها عشرين عاما لم تنتج لهم سوى الخراب والفقر.. وكل الشعارات التي أطلقها السياسيون لم تعد سوى ترّهات لا تغني ولا تسمن، بل إن بعضهم يتمنّى لو عاد صدّام حسين ليحكمهم بدلا من هذا النظام الهجين الذي اخترعته لهم أميركا وتابِعوها المحليون! ثم إن ثورة تشرين فقدت الكثير من حيويتها، وإنْ بقي لها بعض الوهج، وتحتاج وقتا أطول كي يشتدّ عودها من جديد، وتستعيد زخمها الأول، والمراهنة على قدرتها على التغيير في الحال الحاضر أمر مشكوك فيه.
“هل بعد هذا يمكن أن نتوقع في العام الجديد ضوءا في آخر النفق؟ وهل يمكن أن نصحو يوما لنجد العراق مركز حياة وثقل في المنطقة؟.. لا أظن ذلك”.
اتفقنا مع ما قاله السياسي العراقي المعتزل أو اختلفنا معه، فإن قراءتنا ما يدور أمامنا ومن حولنا ترجّح أن العراق مقبل في العام الجديد على أحداثٍ قد لا تخطر في بالنا.
العربي الجديد