منذ أيلول (سبتمبر)، يصبح استقرار كوسوفو الهش الذي استمر منذ العام 1999، في أعقاب تدخل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، محفوفًا بالمخاطر أكثر فأكثر. وقد أدت الاشتباكات التي اندلعت بين الصرب وقوات الأمن في كوسوفو إلى وضع الجيش الصربي في حالة تأهب قصوى في تشرين الثاني (نوفمبر). وأعلن العديد من المسؤولين الصرب البارزين، بمن فيهم الرئيس ألكسندر فوتشيتش، أنه يمكن نشر الجيش الصربي في شمال كوسوفو لحماية الصرب العرقيين، الذين يشكلون غالبية السكان في المنطقة.
لدى موسكو حوافز طبيعية لإثارة هذه الأزمة. سيكون من شأن تفكك الأمن الإقليمي أن يخلق المزيد من العقبات أمام تطلعات صربيا إلى الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، الذي يؤمّل أن يتم في العام 2025. وكان دعم الغرب لكوسوفو قد قوض تاريخيًا جهود صربيا للتكامل الأوروبي، وقال 51 في المائة من الصرب الذين شملهم استطلاع الرأي الذي أجرته شركة استطلاعات الرأي “ديموستات” ومقرها بلغراد في حزيران (يونيو) 2022، إنهم سيصوتون ضد عضوية الاتحاد الأوروبي في حال عُقد استفتاء وطني.
ولكن، من خلال تصعيد التوترات، يمكن لروسيا أيضًا منع المزيد من توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في المنطقة، وربما تخفيف الضغط الغربي على القوات الروسية في أوكرانيا من خلال تحويل الموارد من كييف إلى دول البلقان.
طوال عقد التسعينيات، لعب حلف شمال الأطلسي دورًا بارزًا في تفكيك يوغوسلافيا، التي كان ينظر إليها على أنها خاضعة لهيمنة صربيا. وبينما دعم الغرب مبادرات الاستقلال البوسنية والكرواتية والحكم الذاتي لكوسوفو، كانت صربيا تتلقى الدعم من روسيا. وأدت هذه السياسات إلى توتر كبير بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، حيث أدى احتلال الكرملين لمطار سلاتينا في كوسوفو في العام 1999 إلى “واحدة من أكثر المواجهات توترًا بين روسيا والغرب منذ نهاية الحرب الباردة”.
ومع ذلك، كانت روسيا أضعف من أن تدعم صربيا بما يكفي في التسعينيات. وبعد الإطاحة بالرئيس اليوغوسلافي آنذاك، سلوبودان ميلوسيفيتش، في العام 2000 وانسحاب القوات الروسية من كوسوفو في العام 2003، سعت النخب السياسية الصربية بدلاً من ذلك إلى التكامل الحذر مع أوروبا، مع إبقاء الولايات المتحدة على مبعدة. وفي الوقت نفسه، أقامت صربيا وروسيا علاقات أوثق من خلال العلاقات الاقتصادية المتنامية، واحتضان تراثهما الأرثوذكسي السلافي المشترك، وتقاسم الاستياء من الدور الذي يلعبه حلف شمال الأطلسي في شؤونهما.
استمرت الأراضي الخاضعة للسيطرة الصربية في الانفصال في العام 2000، حيث صوت “الجبل الأسود” سلميًا لصالح الاستقلال في العام 2006، ثم كوسوفو في العام 2008. ولكن، على عكس مبادرات الانفصال الأخرى في يوغوسلافيا السابقة، فشلت كوسوفو في الحصول على اعتراف عالمي. ورفض ما يقرب من نصف أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف باستقلال كوسوفو، وكان أعضاء الناتو/ الاتحاد الأوروبي، إسبانيا واليونان وسلوفاكيا ورومانيا، من بين الرافضين.
كانت موسكو تعارض بشدة استقلال كوسوفو، وقبل إعلان الاستقلال في شباط (فبراير) 2008، حذر الكرملين من العواقب الجيوسياسية التي ستترتب على مضي هذا المسعى قدمًا. وبعد ستة أشهر، استندت روسيا إلى “سابقة كوسوفو” لغزو جورجيا، واعترفت باستقلال المناطق الانفصالية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ويستخدم الكرملين الآن النموذج نفسه لتبرير دعمه للمناطق الانفصالية المدعومة من روسيا في أوكرانيا.
بينما يجد نفسه غارقًا في حرب أوكرانيا، يستكشف الكرملين حاليًا إمكانية إثارة المزيد من الاضطرابات في البلقان من خلال استغلال المشاعر القومية الصربية. ومما لا شك فيه أن القيام بذلك سيعيد توجيه بعض الجهود السياسية والاقتصادية والعسكرية الغربية بعيدًا عن أوكرانيا.
تنامى نفوذ روسيا على صربيا في السنوات الأخيرة، وأصبح الساسة الصرب أكثر حزمًا فيما يتصل بشمال كوسوفو. وعلى الرغم من أن التجارة الإجمالية بين روسيا وصربيا لا تكاد تُذكر مقارنة بالاتحاد الأوروبي، إلا أن روسيا توفر ربع النفط المستورد إلى صربيا، في حين أنهت شركة “غازبروم” السيطرة على حصة 51 في المائة في شركة النفط والغاز الرئيسية في صربيا، “صربيا لصناعة النفط”، في العام 2009.
حال حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به روسيا في مجلس الأمن الدولي دون اعتراف دولي أكبر بكوسوفو، في دليل على فائدة موسكو كحليف دبلوماسي. وفي الوقت نفسه، أصبح بوتين الزعيم الدولي الأكثر إثارة للإعجاب لدى الصرب، حيث أقيمت مسيرات مؤيدة له ولروسيا في صربيا منذ غزو أوكرانيا. ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فإن ما يقرب من 70 في المائة من الصرب يحمِّلون حلف شمال الأطلسي المسؤولية عن اندلاع الصراع.
كان تحقيق التوازن بين شعبية بوتن وعلاقات صربيا مع أوروبا مسعى حسّاسًا بالنسبة للرئيس الصربي فوتشيتش. وعلى الرغم من أنه أدان الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد رفض تنفيذ العقوبات ضد الكرملين، مما دفع المستشار الألماني، أولاف شولز، إلى الإشارة إلى أن فوتشيتش اضطر إلى الاختيار بين أوروبا وروسيا في حزيران (يونيو).
لكن الزعيم الصربي كان قد وقّع مسبقاً صفقة غاز مدتها ثلاث سنوات مع روسيا في أيار (مايو)، ووافق في أيلول (سبتمبر) على “التشاور” مع موسكو بشأن قضايا السياسة الخارجية. وأظهرت مشاريع أخرى، مثل مضاعفة الرحلات الجوية من موسكو إلى بلغراد، استعداد صربيا لمساعدة روسيا على تقويض العقوبات الغربية.
أما الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمسؤولين الغربيين، فهو محاولات روسيا على مدى العقد الماضي تغيير التوازن العسكري بين صربيا وكوسوفو. ويُشتبه في أن مركزًا إنسانيًا روسيًا يقع في مدينة نيش الصربية، القريبة من حدود كوسوفو والذي افتتح في العام 2012، هو في الحقيقة قاعدة عسكرية روسية سرية “أنشأها الكرملين للتجسس على المصالح الأميركية في البلقان”. وإضافة إلى ذلك، زادت صربيا من واردات الأسلحة الروسية، في حين يتم إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين روسيا وبيلاروسيا وصربيا (تسمى “الأخوَّة السلافية”) على أساس سنوي منذ العام 2015.
ومن جهتها، أصبحت الجهات الفاعلة غير الحكومية المدعومة من روسيا حاضرة بشكل متزايد في صربيا. في العام 2009، بدأت الشركات العسكرية والأمنية الخاصة الروسية، وكذلك المنظمات المكونة من قدامى المحاربين العسكريين الروس، في تنظيم معسكرات الشباب العسكرية في زلاتيبور، صربيا، بالتنسيق مع نظرائهم الصرب. وقد اعتُبرت هذه محاولات لتطوير الجيل المقبل من المقاتلين، وقامت الشرطة المحلية بإغلاقها في نهاية المطاف في العام 2018.
كما فتحت عصابة راكبي الدراجات النارية الروسية “ذئاب الليل”، التي لعبت دورًا محوريًا في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم في العام 2014 وفي الاضطرابات التي تلت في أوكرانيا منذ ذلك الحين، فرعًا صربيا، ونظمت رحلات على الطرق في المنطقة لسنوات. وفي كانون الأول (ديسمبر)، افتتحت الشركة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر” -التي تقاتل في أوكرانيا أيضًا- مركزًا ثقافيًا في صربيًا، لتعزيز وتطوير العلاقات الودية بين روسيا وصربيا بمساعدة “القوة الناعمة”.
سوف يسبب استخدام هذه القوات للتهديد بتمرد منخفض المستوى في كوسوفو انزعاجًا هائلاً لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. لكنّ الجهود التي تبذلها روسيا لتأجيج نيران القومية الصربية سوف تتوجه أيضًا إلى البوسنة والهرسك. وقد قبلت “جمهورية صربسكا”، المنطقة التي يهيمن عليها الصرب، شروط تقاسم السلطة كجزء من اتفاقية دايتون للسلام في العام 1995، وانسحبت القوات الروسية من البلاد في العام 2003.
ومع ذلك، تحالف ميلوراد دوديك، رئيس جمهورية صربسكا (الذي كان أيضًا رئيسًا من العام 2010 إلى 2018)، بشكل متزايد مع الكرملين واتخذ خطوات أكبر نحو إعلان استقلال منطقته عن بقية البوسنة والهرسك على مدى العقد الماضي. وتمتاز قوات الأمن في جمهورية صربسكا بأنها مجهزة تجهيزًا جيدًا بالأسلحة الروسية، في حين أعطت موسكو موافقة خفية على دعم وتطوير الجماعات شبه العسكرية في جمهورية صربسكا. ويُعتقد بأن ميليشيا صربية بوسنية تدعى “الشرف الصربي” قد تلقت تدريبًا في ”المركز الإنساني” في نيش، كما نظمت مجموعة “ذئاب الليل” أيضًا مسيرات متكررة في الإقليم.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، أعرب دوديك عن دعمه لروسيا، وهو ما أثار القلق بشأن قدرته على التحريض على الاضطرابات في البوسنة والهرسك بدعم محدود من الدولة الروسية والجهات غير الحكومية. وفي الرد على ذلك، ضاعفت بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي في البلاد، “يوفور” أو “عملية ألثيا”، وجودها تقريبًا ليرتفع عدد أفرادها من 600 إلى 1.100 منذ الغزو الروسي في شباط (فبراير).
مع ذلك، سوف يظل هذا العدد ضئيلاً مقارنة بـ”قوة كوسوفو”، (كفور)، التي يقودها حلف شمال الأطلسي، والتي لديها ما يقرب من 3.700 جندي في بلد عدد سكانه أقل ومساحته أصغر من البوسنة والهرسك، وتتلقى المزيد من المساعدة من “بعثة الاتحاد الأوروبي لسيادة القانون في كوسوفو” (يوليكس). وقد يطغى الدفع بمبادرة استقلال جمهورية صربسكا إلى نقطة يمكن لروسيا معها أن تعترف بها رسميًا وتدعمها بسرعة على القوة الدولية الأصغر هناك. ومن شأنه أيضًا أن يثير دعوات إلى الاستقلال بين الأقلية الكرواتية العرقية في البوسنة والهرسك، التي يقيم قادتها علاقات وثيقة مع موسكو.
في الأشهر الأخيرة، تكشفت الخلافات الكامنة في التحالف الغربي حول النهج الجماعي للتعامل مع البلقان. ففي حين فرضت المملكة المتحدة والولايات المتحدة عقوبات على “مختلف السياسيين البوسنيين الذين يهددون السلامة الإقليمية للبلاد”، اختار الاتحاد الأوروبي عدم القيام بذلك، خاصة بسبب معارضة سلوفينيا وكرواتيا والمجر. وبينما تم قبول كرواتيا في منطقة شنغن في كانون الأول (ديسمبر)، رفضت النمسا دخول رومانيا وبلغاريا، العضوين مسبقًا في الاتحاد الأوروبي منذ العام 2007، في حين عارضت هولندا بالمثل أن تكون بلغاريا جزءًا من منطقة شنغن.
سوف تثبت مهمة الإدارة الفعالة للعنف المحتمل في يوغوسلافيا السابقة مع الاستمرار في جهود التكامل لأعضاء البلقان الآخرين في الاتحاد الأوروبي/ الناتو كونها مهمة شاقة بالنسبة للتحالف الغربي. وقد تم بالفعل تقديم مليارات الدولارات من المساعدات والمعونات لأوكرانيا في العام 2022. وسيكون من شأن مواجهة عدم الاستقرار الإضافي في البلقان أيضًا تسليط الضوء على عيوب سياسة حلف الناتو في المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي، وعدم وجود حل قابل للتطبيق وطويل الأمد لمواجهة القضايا التي تعاني منها منطقة البلقان.
مع ذلك، فقد انتعشت جهود التكامل الإقليمي في الأشهر الأخيرة. في تموز (يوليو)، استأنف الاتحاد الأوروبي محادثات العضوية لضم ألبانيا ومقدونيا الشمالية إلى المنظمة، وتم قبول البوسنة والهرسك رسميًا كمرشح للعضوية في 15 كانون الأول (ديسمبر)، وتقدمت كوسوفو بطلب للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي في 14 كانون الأول (ديسمبر). لكنّ عضوية حلف شمال الأطلسي لكل من كوسوفو والبوسنة والهرسك ما تزال معلقة إلى حد كبير، وهي غير واردة حاليًا بالنسبة لصربيا، التي تعتبر الناتو “عدوها”.
هناك حاجة إلى عمل كبير لدمج هذه الدول المنقسمة في التحالف الغربي، وقد باءت المحاولات الأخيرة لتسريع هذه العملية بالفشل إلى حد كبير. ولم يحقق مخطط إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، لتغيير الحدود بين صربيا وكوسوفو الكثير، في حين كانت الرابطة المقترحة للبلديات الصربية في كوسوفو موضوعًا للانتقاد بسبب وضعها الخطوط العريضة لإنشاء جمهورية صربسكا أخرى.
يكشف دور المخابرات الروسية والقوميين الصرب في محاولة الانقلاب التي وقعت في الجبل الأسود في العام 2016، والتي سعت إلى عرقلة انضمام البلد إلى حلف شمال الأطلسي، عن المدى الذي تقطعه موسكو لتحقيق أهدافها. ولذلك، يجب على المسؤولين الغربيين أن يظلوا حذرين من إمكانيات روسيا في المنطقة. وقد أصبح تصعيد صراعات البلقان التي لم يتم حلها الآن جزءًا رئيسيًا من محاولات الكرملين لوقف التكامل الغربي في أوروبا وتخفيف الضغط عن حربه مع أوكرانيا.
*جون ب. رويل
الغد