يشهد الدينار العراقي تراجعا كبيرا مقابل الدولار لكنه تراجع يخدم مصالح قادة ميليشيات تابعة لإيران أسندت لهم مهمة اختراق النظام المصرفي العالمي من خلال المصارف العراقية.
بغداد – انخفاض قيمة الدينار العراقي في مقابل الدولار، و”معالجته” بعد ذلك، ثم انخفاضه مرة أخرى، ليس سوى تكرار للعبة قديمة بدأت تحت حكومة نوري المالكي بين عامي 2006 و2014، وظلت تتواصل إلى اليوم بعد أن أرست قواعد راسخة لها.
والقواعد هي مجموعة من المصارف الخاصة التي تخضع لإدارة قادة أحزاب وميليشيات، وتعمل لصالح إيران، وتقوم بمضاربات وتحويلات تتجه إلى إيران مباشرة عن طريق مصارفها في العراق، كما تتجه بعض الأموال إلى الأردن وتركيا، قبل أن تتسرب إلى مصارف دولية أخرى، وذلك بالاستفادة من نافذة بيع العملات التي يفتحها المصرف المركزي العراقي. وكذلك بالاستفادة من “التسهيلات” التي يقدمها المصرف للشركات والمصارف الخاصة الأخرى للحصول على مئات الملايين من الدولارات يوميا.
المصارف الخاصة التي نشأت عقب الغزو الأميركي للعراق، أصبحت ظاهرة من أكبر الظواهر في العراق. وبرغم أنه لا يوجد لها مبرر اقتصادي حقيقي، إلا أن الاتجار بالعملة أصبح مبررا كافيا لنشاطاتها.
ظاهرة البنوك الخاصة
كان من أبرز المصارف التي نشأت في سنوات الاحتلال الأولى: “مصرف دجلة والفرات للتنمية والاستثمار” (تأسس في العام 2005، برأسمال يبلغ 112 مليار دينار)، و”مصرف التعاون الإسلامي للاستثمار” (تأسس في العام 2007، برأسمال يبلغ 112 مليار دينار)، ومصرف “جيهان للاستثمار والتمويل الإسلامي” (تأسس في العام 2008، برأسمال يبلغ 225 مليار دينار)، و”المصرف الوطني الإسلامي” (تأسس في العام 2008، برأسمال يبلغ 251 مليار دينار). وحتى نهاية عهد حكومة نوري المالكي، ظهر أكثر من 276 مصرفا وشركة استثمار وتحويلات مالية. وكان من بين أبرزها “مصرف العالم الإسلامي” و”مصرف الجنوب الإسلامي” و”مصرف الوفاق الإسلامي للاستثمار والتمويل” التي تأسست في العام 2016 برأسمال يبلغ لكل منها 250 مليار دينار.
هذا إلى جانب العشرات من شبكات التصريف وتبادل العملات، حتى ليسود الاعتقاد بأن حركة نهضة معمارية وتنموية عملاقة تتحرك في العراق، بينما ظل الواقع يقول إن العراق لم يبن مستشفى واحدة جديدة، ولا أقام جسرا، ولا مدارس، وتراجعت الخدمات الأساسية، حتى لم يعد العراق قادرا على تغطية احتياجاته من الكهرباء، وتعطلت الآلاف من معامل الإنتاج.
مع كثرة المصارف، من الطبيعي بالنسبة إلى حكومات موالية لإيران، أن تفتح الطريق لكي تقيم المصارف الإيرانية مراكز عمل لها في العراق
ومع كثرة المصارف العراقية، فقد كان من الطبيعي بالنسبة إلى حكومات موالية لإيران، أن تفتح الطريق لكي تقيم المصارف الإيرانية مراكز عمل لها في العراق، مثل “مصرف بارسيان” و”بنك إيران” و”ملي إيران”، لتكون بمثابة “جسر” رئيسي للتحويلات المالية لصالح طهران.
العديد من المصارف الخاصة في العراق تأسست بقروض تم تقديمها من المصرف المركزي. وتم تسديدها من خلال المضاربات، ما جعل مئات المليارات من الدنانير يتبدد من الناحية الفعلية، وأصبح تمويل تلك المصارف مجانيا. بمعنى أن المصرف الذي نشأ برأسمال مُستدان وسدد أقساطه من خلال المضاربة المعدة نتائجها سلفا، أصبح يملك تلك الأموال من دون مقابل.
وكانت تلك هي قاعدة النهب الأولى، أو حجر الأساس، لما سوف يتحول إلى آلية ثابتة لتهريب الأموال من العراق إلى إيران. وثبت أنها أكثر فاعلية من كل أعمال الفساد الأخرى، لاسيما وأن عملياتها لا تنطوي على مخالفات مفضوحة للقانون.
فعلى مر السنوات، كان المصرف المركزي يقوم بتنظيم أعمال “مزادات” لبيع الدولار وشراء الدينار، أو العكس، حسب أسعار يعرفها المضاربون مسبقا أو تقررها “اليد الطولى” على المصرف المركزي. فتوفر ربحا صافيا بين مزاد وآخر، يقدر بمئات الملايين من الدولارات في كل عملية مضاربة. حتى انتهى المصرف المركزي إلى الوقوف على حافة الإفلاس بين العامين 2014 و2019، وظل الدينار العراقي يسجل انهيارا بعد انهيار.
وهذه العمليات معروفة للولايات المتحدة على أنها تشكل انتهاكا للعقوبات المفروضة على إيران، إلا أنها لم تتمكن، أو لم ترغب بوقفها. وفي مايو 2019 قدم مساعد وزير الخزانة الأميركية مارشال بيلينغسلي ملفا للمسؤولين العراقيين احتوى قائمة بأسماء الشركات والمصارف الإيرانية التي تحتال على العقوبات الأميركية عبر العراق، وطالب بوقف التعامل معها. وهدد بفرض عقوبات على بغداد في حال لم تعمل على وقف أنشطة الجهات الإيرانية المحظورة.
120 مليار دولار قيمة الفائض بالخزانة العراقية وتجمعت من ارتفاع عائدات النفط
وقد تمت بالفعل الاستجابة إلى المطالب الأميركية، بوقف نشاط بعض المصارف، التي كانت بمثابة “كبش فداء” لكي تواصل المصارف وشبكات تهريب الأموال الأخرى نشاطاتها.
قائمة المصارف التي استغلت “نافذة بيع العملة” وصدرت بحقها عقوبات أو تم وضعها تحت الوصاية، أو دخلت في القائمة السوداء للخزانة الأميركية طويلة للغاية. وتشمل “مصرف الهدى” الذي يملكه النائب حمد الموسوي، لأنه استخدم ثلاث شركات فرعية يملكها هو نفسه لتحويل 6.5 مليار دولار، في الفترة ما بين 2012 – 2015، وكذلك “مصرف نور العراق الإسلامي” الذي يملكه حسن ناصر جعفر اللامي، و”شركة المهج للتحويل المالي”، و”مصرف الشرق الأوسط الإسلامي” الذي يمتلكه علي محمد غلام، و”شركة الندى للتحويل المالي” ويملكها حيدر غلام الذي امتلك “مصرف الشرق” سنة 2012. و”مصرف الاتحاد العراقي” ويملكه الأخوان عقيل وعلي مفتن، و”مصرف الاقتصاد للاستثمار” الذي يملكه سعدي وهيب صيهود، و”مصرف أربيل” الذي يملكه فايد عبدالأمير حسون الوائلي، و”مصرف المتحد للاستثمار” الذي يملكه حسن ناصر جعفر اللامي وفاضل الدباس الملاحق من الأنتربول بمذكرة صدرت في العام 2018. و”مصرف العطاء الإسلامي” الذي يملكه أراس حبيب، والمدرج على اللائحة السوداء لوزارة الخزانة الأميركية.
منع هذه المصارف، أو وضعها تحت الوصاية، لم يمنع من ظهور مصارف أخرى جديدة، تحقق الغرض نفسه، وهو استغلال مزادات بيع العملة التي ينظمها المصرف المركزي.
في العام 2005 كان القانون يسمح للمصرف المركزي ببيع 75 مليون دولار يوميا. إلا أن المصرف بات قادرا، بحسب تعديلات القانون، على بيع ما بين 150 و200 مليون دولار يوميا. ما يوفر آلية استنزاف دائمة تسمح في النهاية بتسريب مئات المليارات من الدولارات. وكانت عمليات “التصريف” جزءا من الـ400 مليار دولار التي قال عادل عبدالمهدي رئيس الوزراء السابق إنها “ضاعت” من الدفاتر!
دورة نقل الأموال إلى إيران
ما يحصل الآن، هو ذاته ما كان يحصل دائما. وهو أن المصرف المركزي باع دولارات بسعر 1450 دينارا للدولار الواحد، فانخفض سعر الدينار إلى نحو 1750 دينارا، وسيعود ليشتري دولارات أقل بالسعر الجديد، وهكذا. فيتم تحقيق “أرباح” بالعشرات من الملايين يوميا، في دورة لا تنتهي، وهي مصممة خصيصا لنقل الأموال إلى إيران باعتبارها “المضارب الأكبر”.
ولكن إيران ليست هي الجهة الوحيدة التي تتسرب إليها الأموال. إذ يمكن لبعضها أن يمر عبر مصارف أردنية أو تركية. ولكنها تؤدي في النهاية الغرض نفسه. اللجنة المالية الخاصة في البرلمان العراقي قالت في تقرير صدر في أغسطس 2015، إن أحد المصارف العراقية اشترى مبلغ 8.8 مليار دولار من البنك المركزي، من خلال مزادات سوق العملة الصعبة، التي يطرحها البنك المركزي في الفترة بين 2012 – 2015،
حولها إلى ثلاثة مصارف أردنية، بواقع 6.455 مليار دولار للمصرف الأول، ومبلغ 1.8 مليار دولار للمصرف الثاني، وأكثر من نصف مليار دولار للمصرف الثالث. وذكر التقرير أن “أحد المصارف الحكومية هرب إلى الأردن وحده ما يربو على 14.3 مليار دولار” (أو أكثر من الميزانية السنوية للأردن). وقال تقرير اللجنة إنه “من خلال كشف الحساب اتضح أن هذا المصرف الحكومي أرسل إلى إحدى شركات الصرافة في عمان مبلغ أكثر من 5.5 مليار دولار”.
مصارف تم تأسيسها بقروض من المصرف المركزي ثم تم تسديد القروض بمضاربات جعلت القروض منحا مجانية
عمليات تهريب الأموال تشمل عقودا تجارية وهمية للاستيراد من الخارج، تسمح لبعض الشركات بالحصول على الدولارات، لشراء معدات وسلع من إيران بأسعار أعلى من سعرها الحقيقي. هذا فضلا عن أن أسواق العراق مفتوحة، من دون أي قيود، للبضائع الإيرانية. وبدلا من أن يحمل الإيرانيون الذين يقومون بزيارة العراق في بعض المناسبات الدينية عملات أجنبية، فإنهم يحملون دنانير عراقية تبيعها لهم المصارف الإيرانية. وهو ما أصبح قاعدة مقررة رسميا، إذ قال محافظ البنك المركزي الإيراني في السابع من سبتمبر الماضي إن المصارف الإيرانية المحلية ستبيع الدينار العراقي وإنها تملك “كميات” منه.
ومع اندلاع الاحتجاجات في سبتمبر الماضي، بدأ سعر الريال الإيراني مسيرة انهيار إضافية. إذ كان يبلغ 382 ألف ريال مقابل الدولار الواحد. ولكنه يبلغ الآن نحو 41 ألف ريال للدولار الواحد. ويهرع التجار والمواطنون الإيرانيون إلى استبدال أموالهم ومدخراتهم بالدولار، لكي يحافظوا على قيمتها. وهو ما دفع المصرف المركزي الإيراني والشركات التابعة له ووكلائها في العراق إلى استحلاب كل ما أمكن استحلابه من الدولارات في العراق، من ناحية لإسناد الريال، ومن ناحية أخرى لتغطية الطلب المتزايد على الدولار. وحيث أن إيران تحتفظ بكميات كبيرة من الدنانير العراقية، فإن بيعها بكثافة عالية هو السبب الذي أدى إلى انهيار أسعارها في العراق، وذلك بينما تم تحويل عدة مليارات من الدولارات، بسرعة قياسية، إلى إيران.
ولا توجد عمليات تجارية في هذا الأمر، ولا صفقات بيع وشراء حكومية. ولكنها عملية استنزاف سريعة للأموال، بطريقة تبدو قانونية، ولا يمكن ملاحقة القائمين بها، لأنهم أخذوا من المصارف العراقية أموالا تعرضها هذه المصارف نفسها من خلال “منافذ” شرعية. فتكون بمثابة نظام لـ”السرقة الحلال”، تجيزه الحكومة العراقية نفسها، في لعبة فساد “قانوني” هي الأعظم في التاريخ. إذ لا يوجد بلد، في أربع أركان الأرض، تعرض لأعمال نهب منظم، ومتواصل، بمقدار ما تعرض له العراق.
وتملك الخزانة العراقية اليوم فائضا يبلغ نحو 120 مليار دولار، تجمعت من ارتفاع عائدات النفط. ولكن لن يمضي وقت طويل، قبل أن يأتي عادل عبدالمهدي آخر، ليقول إنها “ضاعت” من الدفاتر.
العرب