في بداية عام 2022 قال الأميركيون إن المفاوضات مع إيران كانت في “مرحلتها النهائية”، متفائلين بأن اتفاقاً نووياً باتت استعادته في متناول اليد، وبعد مرور عام بدا أن الاتفاق ذاته محكوم عليه بالفشل، إذ قال الرئيس جو بايدن الشيء نفسه في مقطع فيديو ظهر في أوائل نوفمبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أخبر أن الاتفاق النووي الذي أطلق الحملة لاستعادته “مات”. إلا أن الإدارة تراجعت بسرعة عن تعليقه، ولكن على عكس ما يقوله بايدن في الفيديو، استمر المسؤولون الأميركيون في القول إنهم يريدون استعادة الاتفاق باعتباره أفضل طريقة لقطع أي طريق إيراني نحو سلاح نووي، لكن في الفترة الأخيرة جاءت تصريحات المسؤولين الأميركيين تنفي وجود أية أولوية للتفاوض مع طهران في الوقت الحالي. ويتزامن مع التقليل الأميركي من أهمية التفاوض حالياً، تحركات إيرانية تدفع باتجاه الرغبة في استئناف المفاوضات قريباً.
ما تلك المؤشرات؟ وما دوافع إيران؟ وما معوقات التفاوض من وجهة نظر الغرب حالياً؟
معوقات التفاوض في الفترة الحالية
ثمة مؤشرات تزيد من التشاؤم في واشنطن من إمكانية التوصل إلى توافق لإحياء الاتفاق الذي تخلى عنه الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي وافقت طهران بموجبه على كبح نشاطها النووي في مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية، إذ تراجعت المحادثات المتوقفة بالفعل لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) مع بدء الانتفاضة الشعبية المناهضة للحكومة التي تجتاح إيران. وذلك على النحو التالي:
قمع النظام الإيراني للاحتجاجات المنتشرة منذ أربعة أشهر:
أطلقت السلطات الإيرانية العنان لحملة دموية ضد الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي، على خلفية وفاة مهسا أميني، بسبب انتهاك مزعوم للحجاب الإجباري. منذ ذلك الحين، لقي أكثر من 500 شخص، كثير منهم من الأطفال، مصرعهم في الاحتجاجات. ومن ثم وضع رد فعل طهران العنيف على الاحتجاجات، إدارة بايدن في موقف صعب، حيث لا يمكنها دعم المحتجين والسعي إلى اتفاق نووي من شأنه إثراء النظام الذي يضطهدهم.
الدعم الإيراني للحرب الروسية في أوكرانيا
قدمت إيران مسيرات إلى روسيا تهاجم بها البنية التحتية الأوكرانية، مما انعكس بفرض عدد من الدول الغربية وواشنطن عقوبات على كيانات وأفراد إيرانيين مرتبطين بصناعة المسيرات، إذ أكدت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى جانب الولايات المتحدة أن إرسال إيران طائرات من دون طيار إلى روسيا يتعارض مع بند “خطة العمل الشاملة المشتركة” الذي يحظر نقل أسلحة معينة من وإلى إيران.
ومن ثم فإن الكلفة السياسية لمنح إيران تخفيفاً للعقوبات زادت بشكل كبير بالنسبة إلى الغرب، بسبب حقيقة أن النظام الإيراني يقتل شعبه في شوارع إيران ويقتل الأوكرانيين بشكل غير مباشر من خلال توفير أسلحة لروسيا.
من جهة أخرى هناك إرادة سياسية ضعيفة لدى الجانب الإيراني للتعامل مع الغرب الذي تعتقد أن له يداً في تأجيج الاحتجاجات.
كان هناك تفاؤل بالتوصل إلى اتفاق في أغسطس (آب) الماضي، عندما قدم الاتحاد الأوروبي اقتراحه “النهائي” إلى طهران وواشنطن بعد ما يقرب من عام ونصف عام من المناقشات غير المباشرة بين الجانبين. لكن المحادثات انهارت مرة أخرى بعدما طالبت إيران الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة بإسقاط تحقيقها في آثار اليورانيوم التي تم العثور عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة كشرط لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. كما سعت إيران إلى الحصول على ضمانات بأن الإدارة الأميركية المقبلة لن تتخلى عن الاتفاق النووي.
بعد أشهر ظلت النقاط العالقة النهائية من دون حل، وبعد اجتماع بين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ومنسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الأسبوع الماضي في قمة “بغداد 2” بالأردن، أشارت طهران إلى استعدادها لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق على أساس الاقتراح المقدم في أغسطس.
كما انتقد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كناني نهج الولايات المتحدة تجاه المحادثات النووية، مؤكداً أن الاتفاق ما زال مطروحاً والنافذة ما زالت مفتوحة. وصرح رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أن المفاوضات كانت وصلت إلى مرحلة التوقيع قبل خمسة أشهر لكنها واشنطن قدمت أعذاراً في اللحظات الأخيرة.
ومع ذلك لا يوجد دليل يشير إلى أن الإيرانيين أسقطوا مطالبهم، بينما يدرك الغرب وواشنطن تحديداً أن عبء المفاوضات يقع على إيران، وأنها هي من يماطل. وعلى رغم المماطلة الإيرانية المستمرة، لم يصل المسؤولون الأميركيون إلى حد إعلان وفاة خطة العمل الشاملة المشتركة. في أوائل ديسمبر (كانون الأول) الحالي، قال المبعوث الأميركي الخاص لإيران روب مالي، إن إدارة بايدن لا تقضي وقتها الآن في التركيز على الصفقة.
دوافع إيران للعودة للمفاوضات في عام 2023
ومن المرجح أن إيران تسعى إلى إحياء الاتفاق النووي مع العام المقبل للأسباب الآتية:
تمكنت إيران من مضاعفة الأوراق في يديها للمساومة أثناء التفاوض، ومن ذلك تراكم قدراتها النووية من مخزون اليورانيوم المخصب، الذي أعلنت أخيراً نيتها تخصيبه لدرجة نقاء 60 في المئة، فضلاً عن زيادة أجهزة الطرد المركزي لديها. وكل ذلك تم في غياب الإشراف الدولي على برنامجها النووي عبر وضع معوقات أمام عمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
تزايد أوراق الضغط في يد إيران من خلال تقديم الدعم العسكري لروسيا في الحرب الأوكرانية، حتى تعزز موقفها أمام الغرب بحال طلب منها وقف توريد المسيرات لروسيا.
تريد إيران أن تستفيد من رفع العقوبات بالتالي تحقيق المنفعة الاقتصادية من وراء الاتفاق النووي، ومن جهة أخرى أن تستفيد من بند رفع القيود المفروضة على الصواريخ والتقنيات حتى تتمكن من نقلها وبيعها والحصول عليها كذلك، بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2231.
مجيء حكومة إسرائيلية يمينية برئاسة بنيامين نتنياهو: تدرك إيران أنها على الأجندة الأمنية لإسرائيل، وأنه كلما طالت مدة عدم التصالح مع الغرب بشأن الاتفاق النووي ووضع برنامجها النووي تحت المراقبة، ستعمل إسرائيل منفردة على مهاجمة الأهداف النووية داخل إيران، ومن ثم ربما تحاول طهران تحجيم الخطط الإسرائيلية من خلال إعادة التفاوض مع واشنطن، التي قد تقيد التحركات الإسرائيلية في هذا الملف. فبحسب التحليلات والتقديرات القادمة من إسرائيل، بدأ المسؤولون الإسرائيليون مناقشات مغلقة لتقييم استعداد إسرائيل لصراع عسكري مع إيران، وتشير الأنباء إلى أن الوضع تقدم إلى درجة أنه تم تكليف عسكريين بمهمة إعداد خطط عملياتية جديدة وإعداد موازنة لشراء الأسلحة والحصول على المعدات الخاصة اللازمة لمثل هذه الحملة. كما خصصت الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها موازنة ضخمة بمليارات الدولارات لمهاجمة إيران، وشراء أسلحة متطورة، وتقوية العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة.
إجمالاً في ظل الموقف المغاير لكل من واشنطن وطهران بشأن أولوية التفاوض في الفترة الحالية، إلا أنه من المرجح أن عام 2023 سيشهد عودة المفاوضات والوصول إلى المرحلة الأخيرة من إحياء الاتفاق النووي، وبحث رفع العقوبات لكن ذلك لا يعني انتهاء حرب الظل بين إيران وإسرائيل، بل ستستمر لأنها على أكثر من جبهة في الشرق الأوسط وليست نووية فقط.
اندبندت عربي