عقب 11 عاماً من العداء والمواجهة المسلحة المباشرة، تتجه العلاقات بين تركيا والنظام السوري تدريجياً نحو التقارب، وربما “التحالف” في ظل تلاقي المصالح، الذي دفع نحو أول لقاء على المستوى الوزاري بين الجانبين، منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وما تخللها من خلافات سياسية، وقطع للعلاقات الدبلوماسية، وصولاً للمواجهة العسكرية المباشرة على أكثر من جبهة، طوال السنوات الماضية.
وعلى الرغم من أن العنوان المعلن للاتصالات المتنامية بين الجانبين والملفات التي يجري بحثها تتعلق بـ”التعاون المشترك في مكافحة التنظيمات الإرهابية”، وملف أمن الحدود واللاجئين وغيرها، إلا أن التوقعات بأن الهدف الإستراتيجي الأول للتحول في الموقف التركي يتعلق بحسابات قومية وإستراتيجية فرضتها التحولات الإقليمية والدولية في السنوات الأخيرة بشكل عام، والأشهر الأخيرة على نحو خاص.
فالسنوات الأخيرة شهدت تزايد حضور القوات الأجنبية في المنطقة، بدعوى المشاركة في الحرب على التنظيمات الإرهابية، حيث انتشرت قوات أمريكية وفرنسية وأوروبية بشكل عام في سوريا، وقدمت الدعم العسكري واللوجستي لوحدات حماية الشعب الكردية،التي تتهمها أنقرة بالسعي لإقامة كيان انفصالي على طول الحدود السورية مع تركيا، وهو ما تعتبره أنقرة “الخطر الإستراتيجي الأول على الأمن القومي التركي”.
ورغم سنوات من المساعي السياسية والعسكرية لإنهاء الدعم الغربي للوحدات الكردية التي تمددت على نطاق واسع في سوريا، فشلت الدبلوماسية التركية في تحقيق تقدم في هذا الإطار، حيث واصلت القوات الغربية دعم الوحدات الكردية بدعوى محاربة تنظيم “داعش”. وبينما نجحت ثلاث عمليات عسكرية تركية كبيرة في منع تمدد الوحدات الكردية وصولاً للبحر المتوسط وإنهاء سيطرتها على مناطق مثل عفرين وإدلب والباب ورأس العين وتل أبيض، إلا أن الخيار العسكري لم ينجح في إنهاء الخطر الأساسي المتمثل في إمكانية إنشاء كيان انفصالي مستقل شمال وشرقي سوريا.
ومن أجل تحقيق الهدف الإستراتيجي التركي، المتمثل في منع إقامة “كيان انفصالي”، وجدت تركيا نفسها مضطرة لتنفيذ المزيد من العمليات العسكرية الواسعة، وهو الخيار الذي يواجه تعقيدات صعبة جداً من الجانبين الأمريكي والروسي، ورغم اختلاف دوافع الرفض الأمريكي والروسي للعمليات التركية، إلا أن النتيجة النهائية تتمثل في اقتناع المستوى السياسي والعسكري في أنقرة بصعوبة إنهاء خطر “الكيان الانفصالي” عبر الخيار العسكري المنفصل، وهو ما يعتقد أنه دفع للتفكير في عقد تحالف مع النظام السوري الذي يتشارك نفس المخاوف مع تركيا ويرفض فكرة تقسيم الأراضي السورية.
وفي ظل هذه الحسابات، استجدت قضية أخرى باتت على رأس الأولويات الإستراتيجية لصنّاع القرار في أنقرة، وهي توسيع أمريكا انتشارها العسكري في اليونان، وخاصة في المناطق المحاذية للحدود البرية التركية، وفي جزر مختلفة في بحر إيجه وشرقي البحر المتوسط، وهو ما اعتبره المستوى السياسي والعسكري في تركيا تهديداً مباشراً يتوجب الرد عليه بشكل إستراتيجي، وفي أسرع وقت.
هذا “الرد الإستراتيجي” يبدو أنه جاء باتجاهين أساسيين؛ الأول تمثل في زيادة عدد وعتاد القوات التركية المنتشرة في “جمهورية شمال قبرص التركية”، حيث أرسل الجيش التركي مزيداً من القوات والعتاد العسكري الثقيل، بالإضافة إلى الاستعداد لإنشاء قاعدة جوية للمسيّرات التركية، وغيرها من “الأسلحة الثقيلة” التي لم يعلن عنها.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل في العمل بقوة على إنهاء وجود القوات الأمريكية قرب الحدود التركية في سوريا، وهو هدف تتلاقى فيه المصالح التركية والروسية والسورية فيه، حيث ترغب كافة الأطراف في إنهاء وجود القوات الأمريكية لأسباب مختلفة وخاصة بكل طرف، فالنظام السوري يسعى لاستعادة كافة الأراضي السورية والمناطق الغنية بالنفط والغاز بشكل خاص، فيما روسيا تسعى للانفراد بالنفوذ الإستراتيجي في سوريا، بينما تركيا ترغب بدرجة أساسية في إنهاء سيطرة الوحدات الكردية، وإزالة خطر إنشاء “كيان انفصالي”، يضاف إلى هدفها المستجد المتمثل في إنهاء وجود القوات الأمريكية على حدودها الجنوبية بعد تكثيف انتشارها على حدودها الغربية مع اليونان.
وفي ظل هذا التلاقي الكبير في “المصالح الإستراتيجية” للأطراف الثلاث، فإن الهدف المباشر في المرحلة الأولى لن يكون القوات الأمريكية، وإنما وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من واشنطن، وهو ما قد يظهر على شكل صفقات ميدانية أو عمليات عسكرية تدريجية يستعيد من خلالها النظام السوري مناطق من الوحدات الكردية.
ويتوقع أن تجد الوحدات الكردية نفسها أمام خيارين “أحلاهما مر”، وهما إما عقد صفقات والتخلي عن منطقة تلو الأخرى لصالح النظام السوري، أو رفض ضغوط روسيا والنظام، وبالتالي مواجهة عملية عسكرية تركية بمباركة من روسيا والنظام، والتعويل على دعم القوات الأمريكية التي لا يعتقد أنها ستكون مستعدة للدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو وأنقرة ودمشق.
القدس العربي