أسئلة كثيرة أعقبت الاجتماع الثلاثي الروسي – التركي – السوري على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات في الدول الثلاث حول الوضع في شمال سوريا، بعد أن كانت النتيجة الرئيسة لهذا الاجتماع عودة الجانب التركي عن نية التوغل ضمن الأراضي السورية بعمق 30 كيلومتراً، بحجة إخراج الميليشيات الكردية المنضوية ضمن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من المناطق الواقعة تحت سيطرتها، والتي تعدها أنقرة “إرهابية” وتقوض الأمن في تركيا.
وبحسب التصريحات التركية والتسريبات الروسية والسورية، على تنوعها واختلافها في تحديد الأولويات، فإن اجتماع موسكو في 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي خلق دينامية جديدة في العلاقة بين النظام السوري والجانب التركي برعاية كاملة من القيادة الروسية. فوزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، قال إن الاجتماع المرتقب بنظيره السوري فيصل المقداد، قد يجري في النصف الثاني من يناير (كانون الثاني) الحالي، فيما قالت مصادر دبلوماسية روسية إن اجتماع موسكو أقر تسلسلاً للقاءات بهدف استعادة العلاقات السورية – التركية حرارتها، إضافة إلى اجتماعات اللجان المشتركة من أجل متابعة الإجراءات التي اتفق عليها على الصعد العسكرية وعودة النازحين، وتقضي باجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث، كما أعلن أوغلو، على أن يعقبه اجتماع على مستوى الرؤساء برعاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحضور الرئيسين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، خلال الأشهر الأولى من السنة الجديدة.
الاتصالات الروسية التمهيدية شملت إيران
ويرى تشاويش أوغلو أنه في مسألة التقارب مع النظام السوري، هناك دول عدة تدعم عملية الانخراط معه، وهناك من يعارضها، وهناك من يتوخى الحذر، وهناك أيضاً من يرغب في ترجمة العلاقات إلى خطات ملموسة، لكن ما هي انعكاسات هذه التطورات المرتقبة على وضع الأكراد في المنطقة الشمالية وعلى الوجود الأميركي في شمال شرقي سوريا؟ وإلى أي مدى سيصل تطبيع العلاقات بين الدولتين الجارتين بعد أن كان الأسد قد عاند الجهود الروسية في هذا الصدد، وقام بوتين بإقناعه بوجوب اعتماد نظرة واقعية؟ وكيف ستستفيد دمشق من تحسن العلاقات المنتظر، سواء على صعيد تكريس سلطة الأسد أو معالجة بعض جوانب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها مناطق سيطرته، وهل ستؤدي فعلاً إلى عودة جزء من النازحين السوريين إلى المناطق الشمالية بدايةً، وكيف سينعكس ذلك على علاقة بعض فصائل المعارضة السورية بالنظام ومسار الحل السياسي؟
مصادر دبلوماسية روسية أوضحت لـ”اندبندت عربية” أن “اللقاء في موسكو على مستوى وزراء الدفاع وقادة أجهزة الاستخبارات تم التحضير له خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بتعليمات من أردوغان وبوتين، ومن خلال وساطة روسية وتعليمات من الأسد. وعلى مدى تلك الأشهر جرت اتصالات مكثفة أمنية وعسكرية ودبلوماسية شاركت فيها إيران أيضاً”.
تسريع الخطوات العملية تمهيداً للقاء الرؤساء
ذكرت المصادر الروسية نفسها أن “الهدف الرئيس من المشاورات كان “تعزيز نظام التهدئة وخفض التوتر أولاً، الذي توصلت إليه أطراف مجموعة أستانة وتعميمه على كامل الأراضي السورية. كما وضع الخطوات التي يجب أن تتخذ لمساعدة سوريا على تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تعانيها، باعتبارها عاملاً مهماً جداً للحفاظ على نظام التهدئة والاستقرار، إضافة إلى إيجاد سبل لحل أزمة اللاجئين وتطويق الجماعات المسلحة غير المسيطر عليها، التي لم تشملها إجراءات التسوية. فهذه المجموعات تسبب عامل قلق للأمن التركي والأمن السوري والاستقرار بشكل عام في المنطقة”. وهذا أيضاً يشمل بطبيعة الحال “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الأكثرية الكردية، والتي تسيطر على بعض المناطق في الشمال الشرقي لسوريا. فروسيا تؤكد أن هذه القضايا يجب حلها عن طريق الحوار وتسويتها بالطرق السلمية، لذلك لا يمكن حل هذه المشكلات الأمنية والاقتصادية، بما في ذلك قضية النازحين، من دون تطبيع العلاقات التركية – السورية.
وتشير المصادر الروسية إلى أن الاتصالات التمهيدية “أحرزت بالفعل تقدماً مبدئياً مهماً جداً في هذا الاتجاه”، مؤكدةً أنه “مع بداية العام سيتم عقد لقاء لوزيري خارجية سوريا وتركيا، وبعده سيتم اللقاء أيضاً على مستوى الرئيسين. وهذا ليس مرتبطاً أبداً بالانتخابات الرئاسية التركية المنتظرة في يونيو (حزيران) المقبل، والاجتماع على مستوى الرئيسين سيتم حتماً، بحسب هذه المصادر، قبل الانتخابات الرئاسية، ولذلك اتفق على لقاء وزيري الخارجية بشكل مبكر من أجل تسريع الخطوات التي تسبق لقاء القمة. وتم الاتفاق على الخطوات التي سيبدأ اتخاذها على الأرض مباشرةً بعد يومين من اجتماع موسكو.
في السياق، شددت المصادر الدبلوماسية الروسية على أنه “جرى تحديد المهام لكل طرف على الخرائط بالنسبة إلى الخطوات العملية، وهذا يشمل إعادة تموضع بعض القوات السورية والتركية، وفتح بعض الطرق وتسيير دوريات مشتركة والاتفاق على عودة اللاجئين وتسوية وضع بعض التنظيمات المسلحة وأن تكون المساعي في شأن هذه التنظيمات مشتركة على الأرض السورية لإيجاد صيغة لتسوية أوضاع المنتسبين إليها”.
وكانت مصادر تركية قد تحدثت عن أن “اجتماع موسكو تناول القضايا المتعلقة بالعودة الآمنة والكريمة للاجئين وإعادة الممتلكات لأصحابها عند عودتهم وضمان محاكمات عادلة واستكمال التعديلات الدستورية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة”.
إلا أن صحيفة “الوطن” السورية المقربة من النظام، وعلى رغم أن بيان وزارة الدفاع السورية أعلن أن الاجتماع الثلاثي في موسكو كان إيجابياً، أعطت تفسيراً له يوحي بأن انعقاده كان انتصاراً للفريق الحاكم في دمشق، فنسبت إلى مصادر مطلعة، وأخرى مراقبة، قولها إنه “لو لم تكن الأمور تسير بشكل مقبول ووفق ما تريده دمشق خلال اللقاءات الأمنية لما حصل الاجتماع”، مشيرة إلى أنه كان إيجابياً، وذكرت أنه اللقاء الرسمي. وأوضحت أنه الأول من نوعه منذ عام 2011، “وجرى بحث جهود محاربة الإرهاب، والأوضاع في سوريا، ومسألة اللاجئين، وجاءت تأكيداً على أهمية استمرار الحوار المشترك من أجل استقرار الوضع في سوريا والمنطقة”.
وذكرت صحيفة “الوطن” أن دمشق “قاومت منذ فتح أنقرة باب التقرب منها قبل أشهر، إغراءات وضغوط الانفتاح السريع، وأظهرت قدراً واسعاً من استقلال قرارها بمنأى عن مبادرات ومساعي الدول الفاعلة في تحقيق المصالحة بين العاصمتين، من خلال تمسكها بنهجها الثابت ومطالبها بوقف دعم الإرهابيين واسترجاع أراضيها المحتلة، كمطلب شعبي أو جدولة الانسحاب بشكل رسمي، كأضعف الإيمان. ودمشق ماضية خلال الفترة المقبلة في سياستها الحالية القائمة على صيانة الحقوق الوطنية والتعامل مع البالونات الإعلامية التي يطلقها الجانب التركي لتسريع خطوات المصالحة والتطبيع. ورأت المصادر السورية أن الوقت يمر لمصلحة دمشق”.
الانسحاب والانفتاح الاقتصادي المشروطان
وفي وقت شدد فيه الإعلام السوري على أن تركيا “وافقت على انسحابها الكامل من شمال سوريا”، ربط تشاويش أوغلو “عزم تركيا نقل السيطرة في مناطق وجودها حالياً”، إلى سوريا بـ”تحقيق الاستقرار السياسي وعودة الأمور إلى طبيعتها في البلاد”، متحدثاً عن “إمكانية للعمل المشترك مستقبلاً”.
ما يعنيه الجانب التركي بـ”عودة الاستقرار في سوريا هو ولوج الحل السياسي، وفق قرار مجلس الأمن الرقم 2254، الذي يتضمن إصلاحات في السلطة، وقيام حكم انتقالي، إضافة إلى عودة النازحين التي كانت أنقرة تتهم دمشق بعرقلتها. وفي هذا الصدد أفادت المصادر الدبلوماسية الروسية ذاتها بأن من الإجراءات التي اتفق عليها أن “تتم عودة من يرغب من النازحين طوعاً بالدرجة الأولى، ومن حيث المبدأ تم تحديد بعض المناطق على الأراضي السورية لبناء مجمعات سكنية ليتم نقل اللاجئين من الأراضي التركية إلى السورية”. وبينما كان الجانب التركي يأمل، منذ أن أطلق أردوغان مبادرته من أجل إعادة مليون نازح سوري إلى المناطق الشمالية كمبرر للعميلة العسكرية التي كان ينوي تنفيذها، بالحصول على تمويل أوروبي لبناء البنية التحتية والمنازل للعائدين، فإذا تعذر هذا التمويل بسبب أولوية المساعدات الغربية لأوكرانيا في حربها مع روسيا، دفع إلى تحديد طموحات هذه العودة، بحصرها بمن لديهم ممتلكات ومنازل في المنطقة الشمالية في مرحلة أولى، وفق المصادر الروسية، ليتم لاحقاً العمل على تمويل إعادة إعمار من دُمرت منازلهم. لذلك، تقول المصادر ذاتها، إنه “تم الاتفاق على تهيئة الأجواء الأمنية على الحدود، وأن يتسلم حرس الحدود السوري مهامه في المعابر، وأن تتم تهيئة كل الأجواء الآمنة لبدء عمليات التبادل التجاري. وهذه العمليات التي ستبدأ مباشرةً بعد لقاء الرؤساء، والتي ستسهل وصول المساعدات إلى سوريا، والمقصود في الدرجة الأولى العمليات الاقتصادية لوقف التدهور الاقتصادي الذي تعانيه سوريا اليوم”. وفسر مراقبون ذلك بأن فتح باب الاستثمارات في الجانب السوري من الجانب التركي هو إغراء للنظام بالحصول على مساهمة تركية بالانفتاح الاقتصادي على رغم الحصار الغربي على دمشق، مقابل سيطرته على مناطق وجود الميليشيات الكردية وتساهله مع عودة بعض الفصائل السورية المعارضة الموالية لأنقرة. والأرجح أن هذا ما يفسر ربط وزير الدفاع التركي خلوصي أكار عقد لقاء بين أردوغان ونظيره السوري بـ”الظروف المناسبة”.
ضم العشائر إلى إجراءات الاتفاق بمواجهة “قسد”
لكن موسكو تسعى إلى ضم العشائر العربية في مناطق الشمال السوري، وتلك المحاذية لمناطق الوجود العسكري الأميركي إلى جهود إنجاح عملية انتشار الجيش السوري على الحدود. ولذلك دعت روسيا أحد قادة العشائر، الرئيس السابق لـ”ائتلاف المعارضة السورية” أحمد الجربا لزيارتها، آملةً أن تلعب العشائر دوراً في مواكبة تنفيذ “اتفاق موسكو” وخطوات تموضع الجيش السوري على الحدود.
وفي وقت كان من الطبيعي فيه أن يثير الإعلان عن تقارب وجهات النظر بين تركيا والنظام السوري برعاية موسكو حفيظة المعارضة السورية، وتسبب في تظاهرات احتجاج بمناطقها، لا سيما في مناطق وجود “قسد”، فإن الاحتجاجات التي تلقاها المسؤولون الروس من القادة الأكراد على رعاية موسكو الاتفاق الذي سيحد من حركة قواتهم، قوبلت بموقف روسي سلبي نظراً إلى تحالفهم مع واشنطن ومراهنتهم على نيل دعمها. وأفادت المعطيات في هذا الصدد بأن المسؤولين الروس أبلغوا قادة “قسد” بأنهم اختاروا التعاون مع القوات الأميركية الموجودة في مناطقهم، وعليهم تحمل مسؤولية هذا الخيار. ويعبر هذا الموقف عن بعد آخر لاتفاق موسكو يشكل امتداداً لصراعها مع واشنطن في أوكرانيا إلى الداخل السوري. ولم يكن عن عبث أن الجانب الأميركي انتقد الانفتاح على النظام السوري، ودعا أنقرة إلى “مراجعة تاريخه”.
اندبندت عربي