تحل في 23 أبريل (نيسان) الذكرى المئوية لتأسيس “الجمهورية التركية”، لذلك فإن كل المنتمين للدولة التركية على مختلف مستوياتهم، سواء في نطاق الدولة أو الحكومة أو المعارضة أو الشعب، قاموا بتحميل هذا العام معاني مختلفة من وجهة نظرهم.
في هذا السياق حددت حكومة حزب العدالة والتنميةفي السنوات العشر الماضية عديداً من الأهداف للقرن الثاني لتركيا، وخرجت إلى الساحة ملوحة بتلك الأهداف على أمل أن تحصل على مزيد من أصوات الشعب التركي في الانتخابات. وبالفعل فازت بالأصوات في الانتخابات حتى الآن. لكن ما أكثر الأهداف التي تحدث عنها حزب العدالة والتنمية؟
سيبلغ نصيب الفرد من الدخل القومي 20 ألف دولار، وستصبح تركيا واحدة من أكبر 10 دول في العالم، وستتم عضوية الاتحاد الأوروبي، ولن تكون هناك مشكلات في مجال حقوق الإنسان، وسيجري تطبيق قاعدة “صفر مشكلة” مع الجيران بالكامل.
فماذا حدث على أرض الواقع؟
لقد بلغ الدخل القومي للفرد تسعة آلاف و500 دولار. وتحتل تركيا الآن المرتبة 20 بين أقوى الاقتصادات في العالم. أما بالنسبة إلى العلاقات مع الاتحاد الأوروبي فقد ابتعدنا عنها أكثر، ناهيك بالعضوية. وفي ما يتعلق بحقوق الإنسان فنحن الدولة التي تضم أكبر عدد من الصحافيين في السجون. ونحن البلد الذي يوجد به أكبر عدد من السجناء السياسيين. وأصبح بلدنا من أكثر الدول التي تفشت فيها تجارة المخدرات. كما أن تركيا صارت الدولة التي تكون فيها المافيا والجريمة والمنظمات الإرهابية أكثر راحة في العالم.
نعم، كل هذه المعلومات التي ذكرتها هي بيانات رسمية. وقد يقول قراؤنا “لقد تم تصنيع سيارات محلية وطائرات من دون طيار”. لكن لا ينبغي أن ننسى أن قضية تصنيع سيارة محلية هي حكاية قديمة ما زالت تتردد على ألسنة السياسيين الأتراك.
وقد كان أردوغان أعلن قبل نحو 20 سنة أنهم يهدفون إلى إنتاج سيارة “وطنية” ستصدر في عام 2008، أي قبل 15 عاماً، ثم وعد بأنها ستصدر عام 2014 مع الطائرات المحلية. وهذه الإعلانات متاحة على الإنترنت حتى الآن.
ولا تزال هذه السيارة وتلك الطائرة الموعودة من ضمن الأهداف، لكنها ظلت في عداد الوعود الانتخابية التي تكون طي النسيان إلى أن يحين موعد الانتخابات اللاحقة. وأما النموذج المبدئي للسيارة “الوطنية” التي أظهروها للناس وكأنها محلية الصنع، فإنما هي أجنبية من حيث معظم قطعها الأساسية، وليس لتركيا فيها إلا التجميع.
وبالفعل فقد أعلنوا أن التاريخ الذي سيبدأ فيه الإنتاج التسلسلي للسيارة هو عام 2027. أما بالنسبة إلى الطائرة فقد سكتوا عنها ولم يعودوا يتحدثون في شأنها. وقد تلقيت أخباراً تفيد بأن الطائرات من دون طيار المنتجة حالياً في تركيا تتم إعادة تصميم هيكلها في ألمانيا ليجري الكشف عنها قبل الانتخابات كعرض انتخابي. وقد كانت الطائرة الموعودة هي طائرة ركاب كبيرة أو مقاتلة وليس طائرة من دون طيار.
نعم، لم نحقق أياً من أهدافنا وبدأنا قرننا الثاني بتحديات كبيرة. فهناك عديد من المشكلات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي تنتظر تركيا في العام الجديد، وورثنا بعضها من الماضي. منها على سبيل المثال المشكلة الكردية، وقضية “الإبادة الجماعية” للأرمن، وأزمة جمهورية شمال قبرص التركية، ومشكلة الجزر في بحر إيجة.
سأتحدث اليوم بإيجاز عن أهم خمس مشكلات تنتظر البلد، التي لن تسقط أبداً من جدول أعمال هذا العام.
الأولى بالطبع هي الانتخابات المقبلة. وقد تتساءلون: لماذا نعتبرها مشكلة؟ لأن هذه الانتخابات ستكون نقطة تحول تاريخية. ومن الواضح أنه إذا فازت الحكومة الحالية بالانتخابات فإن الاستبداد سيتعزز في تركيا. وسيترسخ تعبير “نظام أردوغان” بكل معنى الكلمة. وسواء فاز أردوغان أو خسر، فإن أشياء كثيرة ستختلف بالطبع بعد الانتخابات.
إذا خسر الرئيس أردوغان في الانتخابات فسيتعين على تركيا أن تعيد التخطيط لجميع استراتيجياتها وسياساتها من الصفر تقريباً من أجل إعادة تأسيس العلاقات الدولية، والأهداف التي فاتتها، والبنية الاجتماعية التي فقدتها التي دمرتها حكومة حزب العدالة والتنمية في السنوات العشر الماضية.
المشكلة الثانية هي القضية السورية. ويمكن تصنيف هذه الأزمة التي كانت أيضاً على جدول أعمال الاجتماع التركي – السوري في موسكو، تحت ثلاثة عناوين رئيسة هي مسار الأزمة السورية وحلها. وحل مشكلة اللاجئين السوريين. والجماعات المتطرفة ومكافحة الإرهاب.
لكن لم يتم اتخاذ قرار مشترك في شأن هذه القضايا حتى الآن. إضافة إلى ذلك سيكون السؤال حول لقاء بين أردوغان والأسد على الطاولة في العام المقبل.
المشكلة الثالثة التي تنتظر تركيا هي علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ومن الآن فصاعداً ستكون السويد واحدة من أهم المتحاورين مع تركيا في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي. لأن السويد تتولى رئاسة الاتحاد هذا الشهر.
يذكر أن أنقرة تعرقل عضوية السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي منذ أشهر. وفي المقابل تتوقع كل من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن تعطي تركيا الضوء الأخضر لتوسيع حلف شمال الأطلسي من دون مزيد من التأخير.
وعلى رغم أن الحكومة الجديدة في السويد تريد حل المشكلات مع أنقرة من خلال الحوار، فإن الرئيس أردوغان يطالب بتسليم بعض المطلوبين لديها بمن فيهم أعضاء حركة غولن.
لكن السويد لا تعتبر حركة غولن جماعة إرهابية، بل على العكس من ذلك تنظر إليها كحركة “اجتماعية يجب أن تحذو حذوها سائر الجماعات”.
بسبب الحرب في أوكرانيا، أصبحت قضايا الأمن وسلاسل التوريد والطاقة وإمدادات المواد الخام من أولويات الاتحاد الأوروبي الآن، مما جعل قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية أموراً ثانوية، ولهذا السبب فإن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لا يهتمان بالدرجة الأولى بما إذا كانت تركيا ستصبح دولة ديمقراطية من عدمه. لأن السؤال الأهم هو ما إذا كانت تركيا ستدخل في فلك روسيا، وكيف يمكن تجنب ذلك. وهو ما سيكون محور التركيز العام المقبل.
المشكلة الرابعة هي بحر إيجة وشرق المتوسط. فمن الممكن أن يتحول التوتر بين اليونان وتركيا في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط إلى توتر عسكري. كما أن منطقة الولاية البحرية التي وقعتها تركيا مع ليبيا هي من المشكلات الرئيسة بينها والقاهرة.
المشكلة الخامسة هي الأزمة الاقتصادية. وسأختصر الكلام حول هذه النقطة لأن أردوغان بدأ يضغط على كل زر لجعل الناس ينسون الأزمة الاقتصادية. وقد فتح أبواب الخزانة على مصاريعها. وبدأت المساعدات وزيادة الرواتب وما إلى ذلك تأتي واحدة تلو الأخرى. لكن بعد الانتخابات سيشعر الناس بتداعيات ضخ الأموال بهذه الطريقة العشوائية، وسيعانون بشدة من ارتفاع الأسعار والتضخم.
باختصار. يمكن القول إنه لم يحدث تغيير جذري في العناصر الأساسية للسياسة الخارجية التركية في عام 2022، وعلى رغم التقلبات المختلفة فقد استمرت الإجراءات المعادية للغرب في الظهور، وبخاصة أن اقتراب الحكومة التركية من روسيا ودفاعها عن بوتين بحماس غير مبرر حتى بعد حربه على أوكرانيا زاد بالفعل من عدم الثقة بتركيا لدى شركائها الغربيين، ليضيف ذلك مزيداً من اتساع الهوة بينها وبين الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن العلاقات مع إدارة بايدن لا تزال تحت المستوى المعتاد، على رغم مرور نحو عامين على تسلم الأخيرة للإدارة في أميركا.
ونلاحظ أنه كنتيجة لتخفيف إجراءات أزمة كورونا، يتزايد عدد رؤساء الدول الذين يزورون البيت الأبيض كل يوم، باستثناء الرئيس أردوغان الذي لم يستطع الحصول على دعوة الإدارة الأميركية إلى واشنطن على رغم الطلب الحثيث من طرف الإدارة التركية.
وباختصار فإن اقتراب موعد الانتخابات في تركيا جعل كل من له اهتمام بهذه الدولة في حال ترقب حذر. نلاحظ هذا بوضوح لدى الدول المؤثرة في الشرق الأوسط أيضاً. ولست متأكداً مما إذا كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي ستتخذان خطوات إيجابية في الأشهر القليلة المقبلة تجاه الحكومة التركية تؤثر إيجاباً في نجاحها بالانتخابات من عدمه.
وسواء تغيرت الحكومة بعد الانتخابات أم لا، فإنني أعتقد أنه لا يوجد لدي شيء يمكنني فعله سوى الأمل في أن تتخذ الدولة التركية اتجاهاً أكثر واقعية في السياسة الخارجية وعديد من المجالات الأخرى
امدبندت عربي