بين إصرار زيلينسكي على “مواصلة القتال حتى تحقيق النصر”، وتأكيدات بوتين أن “الحق الأخلاقي والتاريخي إلى جانبنا”، تمضي الحرب الروسية – الأوكرانية، ساعاتها الأولى من عام 2023 على وقع دوي الانفجارات وصافرات الإنذار في العاصمة كييفوأماكن أخرى في أنحاء أوكرانيا في مقابل احتفالات هادئة وغياب نادر للألعاب النارية عن الميدان الأحمر في موسكو، ما يثير شكوكاً حول احتمالية إنهاء تلك الحرب خلال العام الجديد.
وعلى أثر التداعيات العصيبة التي خلفتها الحرب المشتعلة منذ فبراير (شباط) الماضي، من ضغوط اقتصادية وأزمات في سلاسل التوريد والغذاء والطاقة، ترتفع الآمال بأن يشهد العام الجديد انفراجة، وذلك في وقت رجحت فيه كثير من القراءات والتحليلات أن يطول أمد الأزمة، دون أفق واضح لنهاية قريبة للعمليات العسكرية، إذ رجح البعض أن تنحو الأزمة نحو مزيد من التصعيد بين الغرب وروسيا بصورة قد تتجاوز الخريطة الأوكرانية.
انفراجة أم تصعيد؟
بين احتمالات انعطافة قد تقود إلى تهدئة مفاجئة، وتوقعات بأن الحرب الروسية – الأوكرانية لم تصل بعد إلى ذروتها، وأن الأشهر المقبلة قد تكشف مزيداً من التصعيد المتبادل واحتدام المعارك في ظل عدم وجود إشارة بأن انفراجة مرتقبة قد تلوح في الأفق، تباينت آراء المراقبين في شأن التوقعات المرتقبة لمسار تلك الحرب.
وتحت عنوان “ما الذي سيجلبه عام 2023 لأوكرانيا؟ حل للأزمة أم تصعيد؟”، كتب، مارك غالوتي، في صحيفة “تايمز” البريطانية يقول، إن الحرب الروسية – الأوكرانية المستمرة الآن لأكثر من عشرة أشهر “لا يلوح بشأنها في الأفق أي نهاية مرتقبة”، موضحاً، أن “التنبؤات الثابتة حول ما قد يحدث في الفترة المقبلة محفوفة بالمخاطر كما كانت قبل عام”.
وبحسب غالوتي، الذي ألف أكثر من 20 كتاباً عن روسيا، فإنه من خلال النظر إلى نقاط الانعطاف المحتملة في المستقبل وآفاق الاتفاق على نوع من السلام، من المرجح أن يكون هناك “هجوم ربيعي” أو بالأحرى هجمات من كلا الجانبين، بعد أن تباطأت وتيرة العمليات في ساحات القتال في شرق وجنوب أوكرانيا بشكل طفيف في الوقت الحالي.
ويتابع، “قد يستخدم الروس نحو نصف جنود الاحتياط البالغ عددهم 300 ألف، والذين حشدوا على مدار شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) كوقود للحرب”، ويضيف، “في الوقت الذي قد يبدو فيه من غير المحتمل أن تكون هذه الوحدات جيدة بشكل خاص، إلا أنها ستمكن موسكو من شن هجمات جديدة، حتى لو لم تكن من النوع الضخم والمنسق والواسع النطاق، الذي يمكن أن يقلب مجرى الحرب، إذ إنه بالنسبة إلى بوتين، فإن مجرد إثبات أنه لا يزال قادراً على أخذ زمام المبادرة سيكون بمثابة انتصار نوعي له”.
في الاتجاه ذاته، ووفق تقديرات صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، في شأن تنبؤات العام الجديد بخصوص الحرب الروسية – الأوكرانية، فإنه من غير المحتمل أن تتحقق شروط وقف إطلاق نار دائم، ناهيك بتسوية سلمية رسمية، مضيفة أنه “في عام 2023 من المرجح أن يكون هناك صراع مستمر وطاحن”، وأشارت في الوقت ذاته إلى احتمالات احتدام أزمة الطاقة في القارة الأوروبية مع اشتداد الحرب.
ومرجحاً هو الآخر مزيداً من التصعيد، استبعد يوجين تشوسوفسكي، كبير المحللين في معهد نيولاينز للدراسات السياسية والاستراتيجية، احتمالات “الوصول إلى سلام قريب” بين موسكو وكييف، موضحاً بحسب ما كتبه في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، أن الأوضاع على الأرض تشير إلى تمسك الطرفين بموقفيهما من استمرار القتال حتى تحقيق النصر في ساحة المعركة، ما يعني أن إمكانية حدوث انفراجة قد تكون بعيدة المنال”.
وقال تشوسوفسكي، “مع تجاوز الحرب الروسية في أوكرانيا عتبة العشرة أشهر لا يبدو أنها ستنتهي في وقت قريب، إذ لا توجد أية إشارات تمنح أي ضوء على أن الطرفين قد يستمعان لصوت العقل خلال الفترة المقبلة”، وذلك في وقت لم تتحقق بعد الأهداف الأولية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الحرب، حيث لم تسقط العاصمة كييف ولا حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ما قد يطيل أمد الحرب.
ووفق تشوسوفسكي، فإن هناك عوامل عكست تصعيد القتال وإطالة أمد الحرب، وأنها لن تنتهي قريباً، موضحاً أن الإشارات المتضاربة عن مصير الحرب في عام 2023 تبدو كثيرة، وذلك في وقت لم يظهر فيه بوتين أي استعداد للتراجع عن أهدافه الحربية مع تلويحه بأن يتحول الصراع إلى “عملية طويلة الأمد”، فضلاً عن قراءات تشير إلى هجوم روسي جديد بمشاركة بيلاروس، ما يعني مزيداً من التصعيد.
في المقابل، شهدت الأشهر الأخيرة عديداً من الاختراقات التي حققتها القوات الأوكرانية في ساحات المعركة، واستعادة بعض الأراضي مثل خاركيف وخيرسون، بفضل الدعم المستمر من الغرب أمام تحول روسيا إلى استهداف البنية التحتية الأوكرانية، من خلال ضربات الصواريخ والطائرات من دون طيار، مع محاولة لإلحاق أقصى قدر من الألم الاقتصادي بالبلاد مع حلول الشتاء.
وترى باربارا زانتشيتا، المتخصصة في الدراسات الحربية في “كينغز كوليدج” بلندن، أنه “يمكن لتكلفة الحرب المادية والبشرية أن تزعزع التزام النخبة السياسية الروسية، ما يعني أن التغير الذي قد يحدث سيكون داخل روسيا”، وذكرت زانتشيتا، بحسب ما نقلت عنها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، أن “الحروب التي اندلعت بحسابات خاطئة، مثل حرب فيتنام للولايات المتحدة وحرب أفغانستان للاتحاد السوفياتي السابق انتهت كلها بهذه الطريقة، فقد تغيرت الظروف الداخلية في الدولة التي أخطأت في حساباتها، وهو ما جعل إنهاء الحرب هو المخرج الوحيد منها”.
وتابعت، “هذا سيحدث فقط إذا ثبت الغرب في مساندته لأوكرانيا على رغم تزايد الضغط الداخلي بسبب ارتفاع تكاليف الحرب”، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنه “لسوء الحظ فإن المعركة السياسية والاقتصادية والعسكرية ستكون طويلة، ويتوقع أن تستمر إلى ما بعد نهاية 2023”.
ومضت زانتشيتا تقول، “كان فلاديمير بوتين يتوقع أن تتقبل أوكرانيا دون رد أفعال جارتها القوية، ودون تدخل ذي بال من الدول الأخرى، وأدت هذه الحسابات الخاطئة إلى نزاع طويل لا نهاية له في الأفق، وعلى رغم أن احتمالات التفاوض تبقى ضئيلة، لأن التوصل إلى اتفاق سلام يتطلب تغييراً في مطالب جانب واحد على الأقل، وأنه لا دليل حتى الآن على حدوث هذا التغيير، أو على أنه سيحدث في وقت قريب”.
متى تتوقف الحرب؟
مع ترجيح أغلب القراءات للتصعيد في مسار الحرب الروسية – الأوكرانية، تتركز أسئلة المراقبين في شأن العوامل التي من شأنها حسم المعركة لصالح أحد الأطراف، وقدرة كل منهم على الصمود أمام طول فترة الصراع.
ووفق رؤية مجلة “فورين بوليسي”، فإن “التحدي الحاسم خلال العام الجديد، سيكون مستوى الدعم الدولي للأطراف المتحاربة”، موضحة أنه وفي الوقت الذي أبقت كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والغرب كذلك على دعم كييف وتكثيف حملة عزل موسكو، لا تزال دول كثيرة فاعلة لم تشارك في هذه الجهود، مشيرة إلى دول مثل الصين والهند وتركيا، رفضت الانضمام إلى جهود معاقبة روسيا، كما أن هذه الدول وعديداً من الدول غير الغربية، زادت علاقاتها الاقتصادية بموسكو منذ بدء الصراع.
وذكرت “فورين بوليسي”، أن هذه العلاقات مكنت موسكو من تجاوز حملة الضغط الغربية وتجنب الانهيار الاقتصادي، ما سمح لها بالإبقاء على تمويلها لآلتها العسكرية على رغم “الانتكاسات” التي تعرضت لها قواتها في الأراضي الأوكرانية.
وتابعت المجلة الأميركية، هناك مؤشر آخر يبقى مهماً في حسابات الصمود، وهو الوضع السياسي الداخلي في كل دولة، مشيرة في الوقت ذاته إلى تمكن الرئيس بوتين حتى الآن، من الصمود أمام المعارضة الداخلية المناهضة للحرب، مع قدرته على السيطرة على مجلس الأمن الروسي وصناع القرار الرئيسين الآخرين، وبالمثل، أثبت زيلينسكي قدرته لا على البقاء في السلطة فقط، وإنما في الحصول على تفويض قوي أيضاً.
وخلصت المجلة الأميركية، إلى أن الحرب الأوكرانية في طريقها لتمر بعام صعب آخر، في ظل تقلبات وانعطافات غير متوقعة، سواء أكانت في شكل مزيد من التصعيد العسكري، أو تحولات سياسية، أو تقدم دبلوماسي بوساطة دولية، موضحة أن جميع الحروب تنتهي حتماً في نهاية المطاف، إما بنصر عسكري حاسم أو حل دبلوماسي بين طرفيها المنهكين، لكن استمرار إصرار بوتين، ودعم الغرب لمقاومة أوكرانيا حكومةً وشعباً، يعني أن عام 2023 قد لا يشهد إنهاكاً ولا نصراً.
تكاليف باهظة
ووفق ما كتبه مارك غالوتي، في صحيفة “التايمز”، فإنه مع مرور أكثر من 10 أشهر على الحرب، يدرك الرئيس الأوكراني زيلينسكي جيداً أن هناك خطر “إرهاق أوكرانيا” للغرب في عام 2023، كما قال أحد الدبلوماسيين الأوكرانيين، “نحن نعلم أن الغرب معنا”، لكنهم يخشون أنه في أوقات الصعوبات الاقتصادية، سيرغب الناخبون في زيادة الإنفاق العام “وسيبدأ السياسيون في البحث عن طرق لتقليل الإنفاق على مساعدتنا”، ولهذه الغاية، “سيشهد عام 2023 أيضاً حملة متجددة من قبل إدارة زيلينسكي لتصوير الحرب على أنها صراع وجودي من أجل الحضارة”، واعتبر أن قدرة كلا الجانبين على القتال “تعتمد على استمرار حصولهما على مستلزمات الحرب من الوقود إلى الذخيرة، الأمر الذي يعد ميزة واضحة لأوكرانيا طالما استمر الغرب في تقديم المساعدة لها على النطاق الحالي”.
وأضاف، “تلعب كذلك القدرة الصناعية لتلبية الاحتياجات العسكرية الأساسية دوراً في بقاء موسكو واقفة على قدميها لعام آخر، لكن ذلك مهدد بشح الرقائق الإلكترونية والفشل في تصنيعها محلياً، ما قد يسهم في انخفاض أو ربما ندرة الهجمات الصاروخية الروسية على أوكرانيا”.
وأمام هذا الاستنزاف المتبادل بين موسكو وجبهة كييف المدعومة غربياً، وفيما توقع ماثيو كرونيغ نائب مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن التابع للمجلس الأطلسي، في مجلة “فورين بوليسي”، أن تستمر الحرب خلال عام 2023، وربما حتى 2024 و2025، ذكرت زميلته إيما آشفورد الباحثة في مركز ستيمسون، في ذات المقال، أن هناك فرصة لصناع السياسة للدفع من أجل وقف إطلاق النار في عام 2023 على الأقل، محذرة من أن “تكاليف الحرب بدأت تخرج عن السيطرة بالنسبة إلى جميع الأطراف تقريباً.
اندبندت عربي