تلقى وزير الدفاع الوافد يوآف غالنت هذا الأسبوع مقدمة لما ينتظره في منصبه. هذا لا يعني أن شيئاً ما من هذه المواضيع كان غريباً عليه، لكنه تلقاها مركزة، كالعجينة اللزجة غير القابلة للفصل: الضفة، غزة، الحرم، لبنان، سوريا، إيران، الأردن ودول الخليج، الولايات المتحدة وأوروبا، وفوق كل شيء السياسة الإسرائيلية.
زيارة بن غفير للحرم احتلت جُل الاهتمام، فقد جرّت وراءها تنديدات في العالم العربي، وغضباً في الغرب وصاروخاً رمزياً طار من غزة. ثمة من يربط هذا بتأجيل زيارة رئيس الوزراء نتنياهو للإمارات، التي خطط لها للأسبوع القادم. سواء كان هذا صحيحاً أم لا، فقد وقفت الإمارات أيضاً إلى جانب المنتقدين، (بما في ذلك التوجه لطلب بحث في الأمم المتحدة). هذا لن يضر بعلاقاتها مع إسرائيل، ولكن يجب أن نرى في ذلك بطاقة صفراء: فقدرة الدول العربية المعتدلة على احتواء مواضيع ترتبط بالحرم ضيقة جداً.
بن غفير ليس الوزير الأول الذي يحج إلى الحرم؛ فقد سبقه أوري أرئيل وجلعاد أردان. من الصعب أن نفهم لماذا لا يزور وزراء الأمن الداخلي كلهم الحرم بانتظام، ليس لأسباب يهودية دينية، بل لدوافع عملياتية – كي يفهموا إمكانية التفجر ويقفوا على ترتيبات القوات في المكان، الذي هو تحت مسؤوليتهم. فضلاً عن هذا، فإن الحدث كله يمثل خروجاً عن القياس: لا يمكن أن يصلي اليهود في المكان الأكثر قدسية لهم، في وقت يسمح فيه ذلك للفلسطينيين.
بن غفير لم يحج بحكم مسؤوليته، بل لأجل أن يستفز، والخروج عن القياس لا يصلح بأصبع في العين. يدور الحديث عن نقطة أرخميدية؛ خذ أي مسلم في العالم، من جاكرتا حتى نواكشوط، قلة بينهم يمكنهم معرفة مكان القدس، لكنك ستجد صورة الحرم معلقة في صالونهم أو في غرفة نومهم، كما أن كثيرين منهم لن يعرفوا أياً من المسجدين هو المقدس، لكن هذا لا يغير في الأمر شيئاً؛ الحرم رمز امتنعت إسرائيل، بحكمتها السياسية والأمنية، عن أن تلعب به في الـ 55 سنة التي مرت منذ حرب الأيام الستة.
لا يوجد حسم
انتخب بن غفير كي يعيد الحوكمة والأمن الداخلي في مدن إسرائيل. كان واجباً أن تكون جولته الأولى للنقب أو الجليل، لكنه أراد أن يبدأ بشيء كبير، ليعرف الجميع أنه هنا، ليس فقط في إسرائيل، بل في العالم كله. بخلاف ما نشر، لم يطلب جهاز الأمن منه أن يمتنع عن الحجيج إلى الحرم. فقد عرض المعاني وأوضح بأنه يمكنه أن يحرس المسار المقرر: زيارة قصيرة، في ساعة صباحية مبكرة، بلا أعلام وبلا صلاة.
بصبيانيته التي يتميز بها، احتفل الوزير بحقيقة أن الإعلام لم يعرف عن حجيجه للحرم، وضللته الأحبولة بأنه استجاب لطلب نتنياهو تأجيل الزيارة. حكمة كبيرة: أن تكذب على الإعلام وكأن الزيارة تأجلت إلى الأسابيع القادمة ثم تفاجئ وتحج بما يشبه السرقة. لم يكن للإعلام سبب يجعله يشك بأنه يكذب، لكن من المعقول أنه تعلم الدرس. من الآن فصاعداً ستؤخذ بياناته مع حفنة كبيرة من الملح.
لم تساهم الزيارة في شيء للعزة القومية، أو للحوكمة، أو لحجيج مزيد من اليهود إلى الحرم، أو للميزان الأمني حيال الفلسطينيين. وبالمقابل رفع الحساب فوراً. بارد وجاف على عادته (وينبغي الأمل ألا يتسبب بالإصابات أيضاً). من اعتقد أن حماس “تعلمت الدرس” تلقى في الليل صاروخاً من غزة. صحيح أنه سقط في أرض فلسطينية مفتوحة، لكن هذا كان إشارة واضحة.
بخلاف سياسة إسرائيل تحت الحكومة المنصرفة، امتنعت عن الرد على هذا الهجوم. وستقول لنا الأيام إذا كان هذا حدثاً لمرة واحدة أم تغييراً للسياسة. الجيش و”الشاباك” كانا حتى الآن من متصدري الخط الذي أيد معادلة الرد الفوري – بما في ذلك استخدام كل حدث لضرب أهداف مهمة ترتبط بالتعاظم العسكري لحماس – ومشكوك أن يتخذا خطاً آخر في المستقبل. ادعى بعض من مغردي اليمين في الشبكة بأن المنطق خلق غياب الرد، ويرتبط بخطوة أكبر بكثير نهايتها إلحاق الهزيمة بحماس. يخيل أنهم تحدثوا من قلوبهم: لا شيء في تاريخ نتنياهو قد يدل على نية لخوض معركة نهايتها حسم في غزة (وتشهد على ذلك ثلاث حملات و12 سنة صواريخ في عهوده كرئيس وزراء).
غالنت هو الآخر، الذي كان قائد المنطقة الجنوبية في زمن حملة “الرصاص المصبوب”، لم يؤيد خطوة كهذه، ومشكوك أنه قد غير رأيه. سيجد الآن اثنين من خلفائه في المنصب – رئيس الأركان الوافد هرتسي هليفي والمدير العام لوزارة الدفاع الوافد ايال زمير – وهما متوازنان وملجومان في استخدام القوة. لهؤلاء الثلاثة (وكذا لنتنياهو ولرئيس الشاباك روني بار) تبدو العلاقة المباشرة القائمة بين الحرم وغزة واضحة: الانشغال الزائد بالحرم سيؤدي بالضرورة إلى انعدام الهدوء في القطاع، وكذا في الضفة وفي جبهات أخرى.
الأسوأ من ذلك أن شؤون الحرم تحرف الاهتمام الإسرائيلي عن الانشغال بالمسألة الأهم: إيران. فحسب مصادر أجنبية، سجل سلاح الجو هذا الأسبوع هجومه الأول في دمشق تحت قيادة غالنت. نفهم منه بأن ما كان، هو ما سيكون: إيران تواصل محاولة تهريب الأسلحة المتطورة إلى سوريا ولبنان، وإسرائيل مصممة على مواصلة الهجوم كي تحبط هذه الأعمال.
إن تحسين العلاقات مع موسكو (الذي عبر عن نفسه في المكالمة الهاتفية بين وزيري الخارجية) جاء لمحاولة منع الآثار المحتملة للمحور الروسي – الإيراني كنتيجة للمساعدة الإيرانية في الحرب الروسية في أوكرانيا. فرص هذا الجهد الإسرائيلي موضع شك، لكن أخطاره واضحة، وعلى رأسها مواجهة مباشرة مع واشنطن وعواصم أوروبية ترى في موسكو مجرمة حرب.
أيادٍ ثابتة
ملأ هذا النشاط الأمني المكثف جدول أعمال غالنت الذي فضل إجراء جولته الأولى في الجبهة الأكثر اشتعالاً: المنطقة الوسطى. لكنه أجرى اللقاء الأهم في “الكريا”، مع هيئة الأركان. كان لقاء روتينيا ظاهراً، استهدف تسجيل انتصار، لكن غالنت أوضح فيه لقيادة الجيش القلقة ما يحتاج للإيضاح: للجيش قائد واحد، هو رئيس الأركان، وفوقه وزير الدفاع والحكومة. لن يكون قادة آخرون، لا سياسيون ولا حاخامات.
لهذه الأقوال أهمية على ثلاثة محاور: أولاً، للحفاظ على وحدة الجيش ووحدة القيادة والمهمة التي تتعرض الآن لتهديد حقيقي. ثانياً، للجمهور القلق من أن يمزق سياسيون طموحون أجزاء من الرمز الذي قد يكون الأخير للوحدة التي تبقت هنا. وثالثاً، لغالنت نفسه، الذي يفهم بأنه سيختبر في قدرته على المحافظة على وحدة الجيش (وميزانيته أيضاً) بقدر لا يقل عن الطريقة التي يعمل بها في الجبهات المختلفة.
القدس العربي