العولمة ماضية في مسيرتها ولن تتوقف

العولمة ماضية في مسيرتها ولن تتوقف

واشنطن – خلقت جائحة كورونا تداعيات اقتصادية قاسية وفوضى في الاقتصاد العالمي، ما دفع العديد من المحللين إلى تبني فكرة “نهاية العولمة”. وجاءت التوترات بين الولايات المتحدة والصين لتؤكد مخاوفهم، حيث ادعوا أن التدفق الكبير للسلع والخدمات والأشخاص ورؤوس الأموال والأفكار الذي يشكل هوية عالمنا سيكون ذكرى للتاريخ.

ودعّم حجّتهم تلك غزو روسيا لأوكرانيا والتصدع الجيوسياسي المرتبط به. ومع ذلك، يعتبر المحلل السياسي أفشين مولافي أن الحقيقة هي أن العولمة لا تحتضر ولا تتراجع، بل أن عالمنا قد أصبح أكثر ارتباطا من أي وقت مضى، ويخبرنا التاريخ أن التواصل، مثل الوقت، لا يتحرك إلى الوراء.

نعم، يمكن للصدمات الكبرى مثل الحرب العالمية أو الوباء أن تبطئ عقارب الساعة، لكنها في النهاية تعمل من جديد وتواصل وجهتها.

وقدم تقرير صدر الشهر الماضي عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) حول التجارة العالمية لمحة عن الاتجاه الذي نسير فيه، حيث سجلت التجارة العالمية رقما قياسيا جديدا بلغ 32 تريليون دولار في عام 2022. وبلغت تجارة السلع 25 تريليون دولار بزيادة 10 في المئة عن عام 2021، وسجلت تجارة الخدمات رقما قياسيا بلغ 7 تريليونات دولار بزيادة 15 في المئة عن العام السابق.

وربما الأهم من رقم الدولار هو ارتفاع حجم التجارة بنسبة 3 في المئة على أساس سنوي، وكما لاحظ “أونكتاد” فإن “النمو الإيجابي في حجم التجارة الدولية يشير إلى مرونة الطلب العالمي”.

وقد سمعنا جميعا قصص سلاسل التوريد المذهلة التي تجلب لنا القهوة والشاي في الصباح، أو الوقود والمركبات التي تنقلنا، والبروتينات والحبوب التي تنشطنا، والأدوية واللقاحات التي تشفينا، وأكثر من ذلك بكثير.

وثورة الشحن العالمية هي السبب في أن الأوروبيين يرتدون قمصان الموضة المصنوعة في بنغلاديش، والأفارقة والعرب يبحثون عن المعلومات في هواتفهم الذكية، وفول الصويا من البرازيل يغذي الخنازير في الصين.

ولا يزال عالمنا التجاري المترابط يثير إعجابنا، لكن مولافي يشدد في تقرير لموقع سنديكيشن بيورو على أنه ينبغي ألا نستخدمه بوصفه الصفة الوحيدة للعولمة، وننظر أيضا إلى السفر الجماعي، فقد سجلت صناعة السفر الجوي أكثر من مليار مسافر دولي قبل الوباء، وذلك وفقا للاتحاد الدولي للنقل الجوي، وعدنا الآن إلى حوالي 75 في المئة من ذروة ما قبل الوباء، وتسير شركات الطيران على الطريق الصحيح لتحقيق أرباح مرة أخرى في عام 2023، ومن الصعب احتواء حب السفر العالمي.

أما بالنسبة إلى الهجرة العالمية، فقد شهدنا ارتفاعا مطردا في الأعداد على مدى العقود القليلة الماضية، حيث وصلت إلى حوالي 281 مليون شخص مصنفين كمهاجرين دوليين في جميع أنحاء العالم، وذلك وفقا للمنظمة الدولية للهجرة، وفي حين أن ذلك لا يزال نسبة متواضعة من سكان العالم، فإن حقيقة الأمر هي أن الهجرة قد برزت كخيار رئيسي نحو الحراك التصاعدي في أجزاء كثيرة من العالم النامي.

وبالنسبة إلى تدفقات رأس المال العالمية، فإنها لا تزال مرنة وقوية، وذلك وفقا لبحث أجراه معهد بروكينغز. وتشمل هذه التدفقات كل شيء من مشتريات سوق الأوراق المالية العامة إلى إصدار الديون الدولية إلى الاستثمار الأجنبي المباشر. ونستطيع اليوم، من خلال نقرة إصبع، شراء أسهم في كل شيء من منجم نحاس في تشيلي إلى مصنع سيارات كهربائية في الصين. وتتجاوز أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم الآن 100 تريليون دولار في القيمة السوقية.

وسرد العديد من المحللين الغربيين وقادة الصناعة قصص “العولمة تحتضر”. ورؤيتهم، وفق مولافي، قصيرة النظر، فكل ما عليهم فعله هو النظر حولهم، حيث تستفيد سوق الأوراق المالية الأميركية، وهي الأكبر والأكثر نشاطا في العالم، من المستثمرين الأجانب لتصل قيمتها إلى حوالي 13.7 تريليون دولار من حيازات الأسهم الأميركية، وتمثل هذه الحيازات الأجنبية ما يقرب من 30 في المئة من إجمالي القيمة السوقية لسوق الأسهم الأميركية.

وعلاوة على ذلك، تقدر إدارة التجارة الدولية الأميركية أن حوالي 9 ملايين وظيفة تدعمها الصادرات الأميركية. وفي الوقت نفسه تشير وزارة التجارة الأميركية إلى أن 16 مليون وظيفة أي 10 في المئة من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة “تعزى بشكل أو بآخر إلى الاستثمار الأجنبي المباشر” ويعني ذلك أن 25 مليون وظيفة في الولايات المتحدة هي بسبب العولمة.

تجارة الخدمات تسجل رقما قياسيا بلغ 7 تريليونات دولار بزيادة 15 في المئة عن العام السابق

أما بالنسبة إلى بقية العالم، فلم تصلهم أخبار “العولمة تحتضر”، فالحكومات والشعوب في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وهي أقاليم لـ75 في المئة من سكان العالم مشغولون بعقد صفقات تجارية من شأنها تغذية المستقبل.

ويمثل اتفاق منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية رؤية طموحة للتجارة على نطاق القارة، بينما لا تزال هناك العديد من المطبات في الطريق، فإنها تضع علامة مهمة، وفي الوقت نفسه، تجمع الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي اتفاقية تجارية متعددة الأطراف على مستوى آسيا في الغالب 15 دولة تمثل حوالي 31 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وتستفيد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الجغرافيا الإستراتيجية كمفترق طرق للتدفقات التجارية بين الشرق والغرب، في حين تعمل أيضا كمصدر رئيسي للطاقة العالمية ورأس المال الذي يدعم العولمة. وأبرمت الإمارات العربية المتحدة صفقات تجارية ثنائية جديدة مع الهند وإسرائيل وإندونيسيا. وهي تقع في مفترق طريق العولمة كمتلقّ لتدفقاتها من السلع والمسافرين ورأس المال والخدمات، فضلا عن لعبها لدور المستثمر والتاجر والممكن للاتصال من خلال مراكز الطيران والشحن الخاصة بها.

ويرى المحلل الاقتصادي أنه لكي تحقق مصر إمكاناتها الحقيقية ستحتاج إلى الاستفادة بشكل أفضل من موقعها الجغرافي الذي تحسد عليه، حيث تقع ما بين أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط.

واستفادت المملكة العربية السعودية أخيرا من إمكاناتها الجيواقتصادية من خلال سلسلة من الإصلاحات التي تربط المملكة بالعالم بطرق لم يكن من الممكن تصورها قبل بضع سنوات، والأمر ببساطة أن البلدان التي تمهد الطريق للتواصل سوف تنجح، والبلدان التي لا تقوم بذلك سوف تتخلف عن الركب.

وفي النهاية، أظهر الوباء أنه حتى أكبر الصدمات قوة لأنظمتنا لا يمكن أن توهن من عزيمة مسيرة العولمة.

العرب