للمرة الثانية في خلال شهرين يتجنب الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله التطرق إلى ما يجري في إيران من احتجاجات الشارع التي تتوسع يوماً بعد يوم ويواجهها النظام الإيراني بمزيد من القمع والدماء، في خطابه الذي ألقاه في الثالث من يناير (كانون الثاني) بمناسبة مرور ثلاث سنوات على مقتل قائد “قوة القدس” في “الحرس الثوري” في إيران قاسم سليماني ونائب قائد “الحشد الشعبي” في العراق أبو مهدي المهندس بطائرة أميركية مسيرة في مطار بغداد.
خامنئي يستميل النساء ونصر الله يتجاهل الاحتجاجات
لهذا التجاهل دلالاته بحسب خصوم “الحزب” وإيران بعد أن أخذت التظاهرات المعارضة للنظام ولرموزه تتوسع وتشمل قطاعات في المجتمع لم يسبق لها أن شاركت في الاعتراض على النظام الإيراني، وبعد أن ترسخت عزلة النظام الإيراني بالعقوبات الدولية عليه، لقمعه الشديد للمحتجين وتزايد الإعدامات التي تضاعف من إثارة المجتمع الدولي، وصولاً إلى إنهاء عضوية طهران للجنة المرأة في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. ومن أبرز الدلالات أن قيادة “حزب الله” باتت تعتبر أن الحركة الاحتجاجية تسببت في اهتزاز الشعور بالقوة لدى أذرع “حرس الثورة” في الإقليم بموازاة محاولة تغيير قادة النظام، ولا سيما المرشد علي خامنئي لهجة التعامل مع التحركات المعارضة، وخصوصاً الحراك النسوي الذي يمدها بمشروعية لا ينفع معها اتهام من ينزلون إلى الشارع ويحرقون صور خامنئي وسليماني بأن أميركا وإسرائيل وغيرها من الدول المختلفة مع طهران تحركهم.
من عادة نصر الله أن يتصدر الخطاب التعبوي للنظام الإيراني، وأن يسبقه أحياناً في التعبير عنه نظراً إلى دوره في الترويج لهذا الخطاب، لكنه في إطلالته الأخيرة ابتعد عن الأحداث في إيران، في وقت سعى فيه خامنئي إلى استمالة جزء من المشاركات في الحركة النسائية بقوله في الرابع من يناير إنه خلال الاحتجاجات، لم “تكشف المرأة الحجاب”، مشيراً إلى أن المرأة التي لا تخضع للحجاب الإجباري ليست “معادية للثورة” (الإسلامية). واعتبر خامنئي أن “ضعف الحجاب ليس بالشيء الصحيح، لكنه لا يجعلنا نعتبر ذلك الشخص خارج دائرة الدين والثورة”.
طمأنة جمهور المحور
في خطابات سابقة كان خامنئي أكثر تشدداً ضد المرأة، فيما كانت شرطة “الإرشاد” في السنوات السابقة تضرب وتهين النساء لعدم مراعاتهن الحجاب.
بعد أسبوعين من انطلاق الاحتجاجات إثر مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة “الإرشاد” بسبب عدم التزامها بقواعد الحجاب، اعتبر نصر الله في خطاب له في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أنها توفيت “في حادثة غامضة”، وأنه “تم استغلال هذه الحادثة الغامضة وخرج أناس على الطرقات في عديد من المدن”، وحاول التقليل من حجم التظاهرات، فأشار إلى أنه “نزل العشرات أو المئات، يا أخي، نزل ألف أو ألفان أو ثلاثة آلاف، البعض منهم مارس الشغب واعتدى وقتل”، ثم أنهى حديثه عن الأحداث في إيران بالقول، “أقول لأصدقاء الجمهورية الإسلامية ومحبيها في كل أنحاء العالم: لا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تتألموا، هي أقوى من أي زمن مضى… حتى لو حصلت أحداث، حصلت أحداث أكبر من هذه بكثير في تاريخ الثورة (الإيرانية)”.
في الخطاب نفسه تقصد نصر الله الإشارة إلى “تظاهرات ضخمة في المدن الإيرانية في التشييع الحاشد (لعناصر الباسيج الذين قتلوا في المواجهات مع المتظاهرين أثناء تعاملهم بالعنف مع المحتجين) في مدينة شيراز، معتبراً أنهم “مظلومون ومغدورون، وكانت هذه التظاهرات وهذا التشييع رسالة قوية من الشعب الإيراني إلى كل المتآمرين”. وفي خطابين متتاليين في 29 أكتوبر، ثم في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) لم يأتِ نصر الله على ذكر الاحتجاجات في إيران بعد أن تعاطى باستخفاف حيالها سابقاً، بينما أثبتت الأحداث أن حجمها وتوسعها أكبر مما قاله بعد أسبوعين على اندلاعها، وركز كما في خطابه الأخير على خطاب تعبوي مختلف لجمهوره، لإبعاد الأنظار عما يجري في المدن والمحافظات الإيرانية، يقوم على تعظيم الأخطار التي يواجهها لبنان ومحور “المقاومة والممانعة” في مواجهة إسرائيل وأميركا و”داعش” والتكفيريين، مشدداً على أن عنصر القوة التي يتمتع بها هذا المحور بأنه “نعمة يجب أن يعرفها الإنسان وألا يكفر بها”، موحياً بذلك إلى البسطاء بأن معارضة حزبه وغيره من الأحزاب الموالية لطهران “كفر”.
ابتداع “النسخ الثلاث” لـ”المؤامرة”
في خطابه في 11 نوفمبر أفرد مساحة واسعة للحديث عن بروز “الجيل الثالث” في “المعركة” التي يخوضها محور “المقاومة” ضد إسرائيل وأميركا من فلسطين إلى لبنان والعراق، من أجل إقناع الجمهور باستمرارية الولاء لهذا المحور عبر الأجيال. وفي خطاب الثالث من يناير ابتدع سردية للمراحل السابقة، مستغلاً ذكرى اغتيال سليماني والمهندس لتقديم قراءة للمواجهة التي تخوضها إيران مع أميركا وإسرائيل و”صمودها”، مؤكداً أن “محورنا ازداد قوة بهذا الدم المبارك”، فأشار إلى 3 “نسخ” لاستهداف المنطقة برمتها.
النسخة الأولى في نظره هي “مشروع الشرق الأوسط الجديد في لبنان وفلسطين والعراق وإيران وليبيا والسودان والصومال كان يفترض اجتياحها واحتلالها في المشروع الأميركي وباجتياح أفغانستان صارت الدبابات والجيوش الأميركية بالنسبة لإيران على حدودها الشرقية وعلى حدودها الغربية في العراق، وبالنسبة لسوريا على حدودها الغربية في العراق”، مشيراً إلى حضور سليماني في المواجهة. وإذ قفز نصر الله فوق وقائع التنسيق الأميركي – الإيراني أثناء اجتياح العراق، رأى أن “النسخة الثانية بدأت” بحسب تحليله مع الرئيس الأميركي باراك أوباما “بعد أن اكتشفوا أن الحروب العسكرية الواسعة التي قامت بها أميركا مكلفة جداً وفاشلة”. واستنتج أن هذه النسخة فشلت في تغيير الواقع عبر ما يسمى “ثورات الربيع العربي”، وبالتعاون مع “الإخوان المسلمين” واستخدام “داعش”، في “إخضاع إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن وإخضاع الفلسطينيين”… وينسب اغتيال سليماني والمهندس إلى تلك المرحلة بهدف “كسر محور المقاومة”، مؤكداً أن “إيران لم تخضع ولم تخف”.
أما “النسخة الثالثة فلها علاقة بالموضوع الاقتصادي المعيشي، الحصار، العقوبات” واعداً بحديث مفصل عنه، مضيفاً، “لكن ما أود أن أؤكد عليه هو أن ننظر إليه على أنه جزء من المعركة”. ومن الطبيعي أن يعلق خصوم نصر الله على هذا الجانب بالإشارة إلى دور القيادة الإيرانية وأدواتها في الدول التي تعاني الحصار الغربي في تحطيم أسس اقتصاداتها، بتسخير إمكاناتها من أجل الحروب التي رعتها فيها وأثر الإنفاق العسكري السخي في هذه الحروب على الاقتصاد الإيراني نفسه، في شكل دفع بعض مسؤولي “الحزب” الذين يترددون على طهران في إطار الأعمال الاستثمارية أو الزيارات التجارية إلى الاستنتاج (من دون المجاهرة بذلك أو الإعلان عنه) عند بداية الاحتجاجات بأن القمع الذي واجهت به السلطات التظاهرات بعد مقتل مهسا أميني، سيكون له مفعول عكسي، نظراً إلى أن جزءاً واسعاً من الشعب الإيراني يعاني الجوع والفقر جراء الأزمة الاقتصادية.
ارتباك “الحزب” من انعكاسات الداخل الإيراني
ما توقف عنده بعض السياسيين المعارضين لـ”الحزب” في لبنان وبعض المراقبين هو ما يرونه ارتباك “حزب الله” في قراءة الأحداث، ولجوء نصر الله إلى “تغطية الانعكاسات المحتملة لانشغال إيران بأوضاعها الداخلية على موقع حلفائها وأذرعتها في الإقليم، بالسردية التي يسعى إلى تقديمها في خطبه الأخيرة”.
خطابه الأخير تميز بالتشديد على أن الحل لأزمة الفراغ الرئاسي في لبنان داخلي وليس من الخارج، الأمر الذي ينادي به خصومه أيضاً، لكن من موقع مختلف. وفي رأي هؤلاء أن “حزب الله” يتشدد في السعي إلى انتخاب رئيس يطمئن إليه في تكرار حديث قيادته عن أن مطلبها المجيء برئيس “لا يطعن المقاومة في ظهرها”، لكنه يستعجل الاتفاق على هكذا رئيس بالدعوة إلى الحوار والتوافق، تحوطاً لتغييرات في المنطقة وفي الداخل الإيراني، تنعكس على موقعه في لبنان وفي سوريا، على رغم تأكيد نصر الله أنه ليس خائفاً على الحزب من طعنه بالظهر، بل خائف “على البلد”. فهو قال إن “رئيساً لا يطعن المقاومة بالظهر يعني لا يأخذ البلد إلى حرب أهلية، ويريد الحوار والوفاق”.
وبذلك هو يقرن الدعوة إلى عدم المراهنة على الخارج، استعجالاً لاتفاق داخلي، من أجل إيجاد مخارج لمأزق الفراغ الرئاسي، بالتلويح بالعنف، الذي لا يبدو أن أياً من الفرقاء اللبنانيين مستعد للانزلاق إليه. والأرجح أن هذا التهديد موجه إلى الدول الضاغطة من أجل تسريع إنهاء الفراغ الرئاسي، باختيار رئيس لا يخضع لنفوذ الحزب، ويلبي شروط المجتمع الدولي بإبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية، كشرط معروف لمساعدته على تجاوز أزمته الاقتصادية الكارثية.
فنصر الله دعا من باب تشجيعه الفرقاء المعارضين لمرشح رئاسي يدين بالولاء له إلى عدم المراهنة على اجتماع باريس المقرر في منتصف يناير بين ممثلين عن أميركا والسعودية وقطر، إضافة إلى فرنسا، لبحث الأزمة اللبنانية.
اندبندت عربي