يعتمد العراق على إيرادات النفط كلياً في تعاملاته الاقتصادية الداخلية والخارجية، بحسب وصف كثير من المتخصصين المحليين والدوليين، وباتت تمثل أكثر من 90 في المئة من الإنفاق الجاري حالياً.
هذا الواقع جعل كثيراً من المتخصصين في علوم السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني بالعراق وخارجه يدعون إلى مراجعة ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال أي تغيرات بالأسعار.
وأعربوا عن قلقهم الكبير وهم يتابعون تصاعد الاعتماد على إيرادات النفط بنسبة تفوق 95 في المئة، مما يضع البلاد على “كف عفريت”، كما يصفها وزير نفط سابق.
فرض ذلك الواقع على المتخصصين دق جرس الإنذار الشديد، كما يقول غسان العطية مدير المؤسسة العراقية للتنمية والديمقراطية، وهو سياسي مخضرم وعمل طوال حياته معارضاً لنظام صدام حسين، الذي يرى أن “اعتماد أي بلد على مصدر وحيد لإدامة الدولة يحمل مخاطر كثيرة، خصوصاً إذا كان هذا المصدر قابلاً للنضوب أو للانقطاع بسبب عسكري أو لأي سبب آخر”.
خطر كبير
وقال العطية لـ”اندبندنت عربية” إن “عديداً من الدول التي اعتمدت على مصدر نفطي، تعمل على إيجاد بديل لذلك عن طريق اعتماد الطاقة البديلة حيناً، أو على الموارد التجارية أحياناً، وخير مثال على ذلك يتمثل في بعض الدول الخليجية التي تمكنت من تخطي هذه الأزمة، وبدأت تفكر جدياً بالمصادر البديلة للنفط، لكن العراق ما زال مصراً على الاعتماد الأحادي على النفط”.
وأشار إلى أن “هذا يعد خطراً كبيراً على البلاد، ففي العهد الملكي (1920-1958) مثلاً كان هناك مجلس الإعمار، الذي ظل يتسلم 80 في المئة من واردات النفط للاستثمار والصناعة والزراعة وغير ذلك، ويخصص 20 في المئة للخزانة كموازنة تشغيلية”.
وأوضح “أما الآن فقد انقلبت الآية سلباً، الموازنة التشغيلية أصبحت تفوق 75 في المئة، والبقية للاستثمار والعمل، وعلى هذه الصورة فإن الوضع العراقي يقف على كف عفريت، ولو انقطع النفط لأي سبب ما سنشهد كارثة”.
ويتساءل العطية هل هناك طريقة لتجاوز هذه الحال؟ ويجيب بأن “هذا صعب لأن طبيعة النظام القائم حالياً تدل على أن الحاكم أو رئيس الوزراء الحالي يفكر باليوم فقط وليس بالغد، ويريد أن يمشي أمور اليوم، لأنه يدرك بأنه لم يبق أكثر من أربع سنوات على الدورة الانتخابية، وعلى هذا الأساس من الصعب جداً أن نجد حلاً قريباً، وأن أي تفكير للحل يجب أن يكون على مدى سنوات طويلة، وهذا غير ممكن”.
مقارنة بين زمنين
يعلق وزير النفط الأسبق عصام الجلبي على أرقام الإيرادات النفطية للكشف عن حجم الفساد الذي جرى، مقارنة بين زمنين بقوله إن “مجموع ما حققه العراق من إيرادات نفطية منذ عام 1927 لغاية الاحتلال الأميركي 2003 بلغ 283 مليار دولار، بينما بلغ خلال الفترة 2003- 2022 بلغت 1310 مليارات دولار”.
وقال الجبلي، في تصريح خاص، “لو أخذنا فقط السنوات 2020-2022 يظهر أن ما جناه العراق خلال ثلاث سنوات يعادل إيرادات 76 سنة، واقع القطاع النفطي في حال تدهور مستمر ووضع سيئ جداً”.
وأوضح أن “العراق الآن بلد مستورد للمشتقات النفطية، وأن حجم استيراداته بحدود أربعة إلى ستة مليارات دولار سنوياً، وبلغ مجموع الاستيرادات بالحد الأدنى 80 مليون دولار، وهو يستورد الغاز على رغم أنه يحرق 55 في المئة من الغاز المصاحب فقط بالمنطقة الجنوبية، ويستورد غاز بمعدل أربعة إلى خمسة مليارات دولار سنوياً، وسيستمر باستيراد الغاز لأنهم مدوا أنابيب من إيران باتجاه العراق”.
ويتوقع الجبلي أن يستمر هذا الوضع، لأن هذه السلطة السياسية باقية، إضافة إلى عدم وجود تطوير للمصافي، ولا للشبكة الخاصة بالمشتقات النفطية، عدا إنشاء مصفى في كربلاء بوشر العمل به قبل 10 سنوات وحتى الآن لم يكتمل، وعليه مشكلات كبيرة، على رغم أن تنفيذه من قبل شركة كورية بكلفة تصل إلى ستة وربع مليار دولار، في وقت أن الكلفة الحقيقية له بالمواصفات العالمية يجب ألا تتجاوز ثلاثة مليارات دولار.
كما تدفع البلاد سنوياً إلى جولات التراخيص، ممثلة بالشركات الأجنبية، في حدود 14 مليار دولار، وهذه أرقام تستنزف الإيرادات، وعلى رغم وجود هذه الشركات لم يشهد البلد تطويراً في الصناعة النفطية أو الزراعة، ويعزى كل ذلك إلى حجم السرقة والرشاوى، وسوء الإدارة وكلها مجتمعة سببت إلحاق الضرر البالغ بالاقتصاد العراقي وتهديد مستقبله”.
النفط الشريان الوحيد
الأزمة الكبرى التي تهدد العراق هي اعتماده على منفذ واحد لتصدير النفط عبر موانئ الجنوب على الخليج العربي ومضيق هرمز، إضافة إلى تصدير 100 ألف برميل عبر ميناء جيهان بالاتفاق مع إقليم كردستان، وفي حال أي طارئ لهذا المنفذ يتوقف تصدير النفط العراقي كلياً.
وهناك تحد آخر يتمثل في التحول إلى الطاقة النظيفة التي تقلص الاعتماد على النفط الخام أو الوقود الأحفوري، وبشكل عام يسعى العالم الغربي إلى تحقيقه.
وزير النفط الأسبق جبار علي اللعيبي يرى أن العراق بات يعتمد على الإيرادات النفطية بشكل فاق التصور بنسبة 98 في المئة، وقال إن “النفط أضحى الشريان الوحيد الذي يغذي البلد، وعلى الجهات المسؤولة أن تنهض وتهتم بهذا المورد الحيوي، من خلال الاهتمام بصناعته التي تردت في السنوات الأخيرة بسبب الحروب التي كانت تدور قريباً من الحقول النفطية”.
وأضاف اللعيبي، في تصريح خاص، أن “التردي زاد بسبب الجهل والإهمال أخيراً فحدث تخلف في عموم قطاع الطاقة، لا بد وأن ننظر للمشكلة بمنظار واقعي، وهو أن تقوم الجهات المعنية بالنهوض بهذا القطاع، وبعكس ذلك ستزداد احتمالية انهيار الاقتصاد، وانهيار كل المؤسسات التي تعمل في العراق التي تمول من القطاع النفطي”.
مخاطر التصدير الأحادي
وحذر اللعيبي من التمادي في الارتهان إلى الواقع الحالي عبر آلية الاعتماد على النفط لتمويل الدولة ودفع رواتب موظفيها، “إذا استمرت مسلمة أبيع نفط وأعطي رواتب والله كريم ما دام النفط ماشي، من دون إدراك مخاطر هذه السياسة التي ستؤدي إلى كوارث لا تحمد عقباها”.
ويرى أن “النفط مقبل على تقلبات بالأسعار، كما شهدناه سابقاً حين وصل في الثمانينيات إلى 140 دولاراً للبرميل ثم هبط سريعاً، فلا يوجد ضمان بقاء الأسعار وثباتها في الأسواق العالمية”.
وطالب الحكومة “بوضع خطط واقعية علمية لبناء البلد من خلال ما نحصل عليه من إيرادات النفط، وبناء البلد وليس الانغماس بالتشغيلية، وإعطاء رواتب، وشراء أصوات انتخابية”، وقال إن هذه السياسية “ستؤدي إلى نتائج سلبية على البلد والناس مستقبلاً، فلا مناص من إعادة هيكلة القطاع النفطي، وإبعاده من المحاصصة المقيتة وتسليمه لكفاءات وطنية وعلمية مخلصة، لأن العراق يمتلك ثروات هائلة من النفط والغاز لكنها غير مستثمرة”.
ولا يتوانى اللعيبي من التحذير من مخاطر متوقعة جراء هبوط سريع وربما كبير في أسعار النفط بالأسواق العالمية يقابلها غياب مصدات قوية في الاقتصاد والموازنة العراقية، الأمر الذي يعيدنا إلى السنوات السابقة التي تكررت منذ 2014 لمرات عديدة تسببت في فوضى اقتصادية ومالية واجتماعية.
أهمية المورد النفطي
المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح شدد على أهمية المورد النفطي في تحديد اتجاهات دورة الإعمار بالعراق، وقال إن إيراداته تشكل مساهمة رئيسة في الموازنة العامة السنوية بنسبة لا تقل عن 92 في المئة من إجمالي الإيرادات السنوية، فضلاً عن 98 في المئة من تدفق العملة الأجنبية وتكوين الاحتياطات الدولارية.
وأشار صالح إلى علاقة عكسية بين هبوط أسعار النفط وبين تعاظم مخاطر العجز الاقتصادي الداخلي على مستوى الموازنة العامة أو العجز الخارجي على مستوى الحساب الجاري لميزان المدفوعات.
ودعا المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة من خلال “اندبندنت عربية” إلى الشروع في توظيف فوائض القطاع وزجها في عجلة الاستثمار، كما دعا إلى مواجهة مخاطر دورة الأصول النفطية بالسعي إلى إعلان برنامج السيادة الزراعية للعراق وتأسيس شركة للزراعات الوطنية تتولى الإنتاج والتسويق والتصنيع الزراعي وتوفير التقنيات المتقدمة في إدارة المياه.
وطالب صالح بمراقبة التصرفات المالية والتصدي لمظاهر تبديد الموارد على نحو غير مدروس، بعد أن ظلت المالية العامة وموازنة البلاد تكابد تصرفات تنحرف عن أهدافها وبرامجها الصحيحة في سابق الأزمنة بنسب لا تقل عن 15 إلى 25 في المئة سنوياً من إجمالي الإنفاق الكلي أو أكثر.
الدعوات التي يطلقها المتخصصون لا تجد بالبرلمان أو مؤسسات الحكومة صدى يذكر، لأنها غارقة في معالجة الفساد الذي يأكل جدار الدولة ويعرضها لمخاطر البقاء.
اندبندت عربي