لتعزيز الشكوك بشأن الحكمة من توطيد العلاقات بين الجمهورية الإسلامية وروسيا، على واشنطن إثارة الشكوك الإيرانية القائمة منذ زمن طويل تجاه روسيا والعمل مع أوروبا لمعاقبة الكيانات الإضافية الضالعة في برنامج الطائرات المسيّرة.
تطورت علاقة طهران بموسكو بشكل كبير منذ غزو أوكرانيا، بدءً من تسليم الأسلحة وإلى موجة من الوفود السياسية والتجارية التي تعبر كلتاالعاصمتين. وولّد هذا التطور مخاوف يتم التهامس بها داخل إيران، حيثيخشى البعض من أن تكون الحكومة قد ارتكبت خطأً فادحاً من خلال تورطها مع شريك غير جدير بالثقة وهو روسيا. وعلى الرغم من أن هذه الأصوات كانت منعزلة حتى الآن، يجب على الحكومات الغربية تغذية هذه الشكوك في إطار استراتيجيتها الرامية إلى كبح المساعدات العسكرية الإيرانية.
من الاحتكاك إلى الدعم
كانت العلاقات بين روسيا وإيران مضطربة خلال الجزء الأكبر من السنوات الخمسمائة الماضية، مما أدى إلى زيادة انعدام الثقة إلى حد كبير لدى العديد من الإيرانيين اليوم. وخلال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، خاضت روسيا وبلاد فارس حروباً متعددة، بينما شهد القرن العشرين تدخل موسكو بشكل متكرر في شؤون إيران (على سبيل المثال، معارضة ثورتها الدستورية؛ ودعم الحركات الانفصالية والشيوعية؛ واحتلال أراضيها). وبدأت العلاقات تتحسن في أواخر الثمانينيات، لكن الخلافات استمرت حول قضايا مختلفة، والتي تشمل طموحات موسكو المتباينة في سوريا، ورغبتها في إرساء توازن في علاقاتها مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ودعمها لقرارات مجلس الأمن الدولي ضد إيران، وبطء وتيرة توسيع العلاقات التجارية وتلك المرتبطة بالطاقة.
ومع ذلك، أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى توطيد العلاقات بين روسيا وإيران. فقد احتاجت موسكو إلى دعم سياسي وعسكري لمواجهة العزلة الدبلوماسية والضعف في ساحة المعركة، بينما رأت طهران على ما يبدو فرصة لجعل نفسها شريكاً ضرورياً لأكبر قوة نووية في العالم وجني ثمار اقتصادية وتكنولوجية وسياسية وعسكرية. وعلى الرغم من انعدام الثقة التاريخي بين الدولتين، إلّا أن روسيا أصبحت الآن أكثر أهمية لطهران مما كانت عليه حتى قبل عقد من الزمن، عندما كان القادة الإيرانيون لا يزالون يسعون إلى تحسين العلاقات مع الغرب. كما أن الانحياز إلى موسكو عند احتياجها إلى الدعم أمراً منطقياً على الأرجح من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للمرشد الأعلى علي خامنئي من حيثتعزيز استراتيجيته القائمة على “التطلع إلى الشرق“.
وينطوي التقارب الكبير الذي شهدته العلاقات مؤخراً على عناصر سرية وعلنية. فقد أصبحت طهران أهم مورّد عسكري لموسكو، مع استخدام الطائرات بدون طيار الإيرانية بشكل متكرر ضد المدن والبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا. ووفقاً للحكومات الغربية، نشرت طهران أيضاً عناصر في شبه جزيرة القرم لتدريب الجنود الروس على تشغيل هذه الطائرات المسيرة. وحاول الطرفان الحفاظ على سرية هذه المساعدات، حيث أنكرتطهران أنها زودت روسيا بطائرات مسيرة خلال الحرب (على الرغم من أن الضغط الدولي أجبرها على الادعاء بأنها باعت مثل هذه الأنظمة إلى روسيا – في عام 2021). وربما توصل الإيرانيون أيضاً إلى اتفاق لتصنيع طائرات بدون طيار في روسيا وبيع صواريخ باليستية قصيرة المدى لجيشها. أما التعويض الذي ستقدمه موسكو لطهران فهو أقل وضوحاً في هذه المرحلة.
وازداد الحديث عن التعاون التجاري خلال الحرب أيضاً. فقد ركزتالحكومتان على توسيع التجارة، وتحسين روابط النقل، وتسريع التعاون في مجال الطاقة، وإنشاء بنية تحتية مصرفية مناسبة. وفي تموز/يوليو، وقعتا اتفاقات في مجال الطاقة بقيمة 40 مليار دولار، على الرغم من أن العديد من هذه المشاريع سيواجه تحديات قد تكون مستعصية من حيث التنفيذ. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، استضافت “غرفة التجارة الإيرانية” وفداً من 120 رجل أعمال روسي، وُصف بأنه الأكبر منذ عقود، وعقدت مؤتمراً رفيع المستوى لمناقشة توسيع العلاقات وتقليل الحواجز. وبالمثل، أرسلت إيران وفوداً تجارية إلى موسكو، وعقد مسؤولون مصرفيون من كلا البلدين اجتماعات متكررة. وقد تكون التجارة الثنائية قد زادت إلى حد ما نتيجة لذلك، على الرغم من أن وكالاتي الجمارك الإيرانية والروسية تختلفان بشأن حجم الزيادة. وفيما يتخطى ذلك، لم تظهر أي تغييرات رئيسية من هذا العدد الكبير من الإعلانات، ويستمر البلدان في التنافس اقتصادياً في أسواق السلع الأساسية.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، تميزت العلاقات المتوطدة بعقد اجتماعات متكررة بين كبار المسؤولين. وعلى وجه الخصوص، زار الرئيس فلاديمير بوتين إيران في تموز/يوليو واجتمع بخامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، في إحدى أولى رحلاته الدولية منذ الغزو. كما اجتمع برئيسي مرتين أخريين خلال الحرب.
تزايد النقد بشكل متواضع
حتى في الوقت الذي يتعامل فيه المسؤولون في النظام الإيراني مع نظرائهم الروس وفق ما يبدو بأنه مقاربة “شاملة للحكومة بأكملها”، إلّا أنه برزت بعض الانتقادات الداخلية. وعلى الرغم من أن هذه المعارضة لا تزال متواضعة حتى الآن ومحصورة بشخصيات من خارج الفصيل المتشدد الذي يدير البلاد حالياً، إلا أنها تمثل فرصة يمكن للغرب استغلالها.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر، وصفت مجموعة من خمسة وثلاثين دبلوماسياً إيرانياً سابقاً دعم الغزو الروسي لأوكرانيا على أنه “خطأ فادح”، لاسيما وأن إيران تعتبر نفسها “رمز مناهضة الاستكبار ودعم المظلومين والمضطهدين في أقاصي العالم”. كما أشار البيان إلى أن موسكو كانتتنتهج “سلوكاً مزدوجاً”، من مواصلة المحادثات مع واشنطن إلى بيع أسلحة متطورة والتعاون في أسواق الطاقة مع خصوم إيران مثل السعودية وتركيا. واعتبر دبلوماسي سابق آخر، وهو محمد الصدر، أن روسيا وجهت “ضربة قاضية” إلى مكانة إيران الدولية باستخدام طائراتها المسيرة ضد أوكرانيا.
وانتقدت شخصيات أخرى بشكل أكثر مباشرة مصداقية روسيا. فقد اعتبر حسين علائي – القائد السابق لـ “قوات البحرية التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي»” الإيراني، الذي اتخذ مواقف مثيرة للجدل في الماضي – أن موسكو سعت إلى جر طهران إلى الحرب منذ البداية، من أجل جعل السياسة الخارجية الإيرانية “رهينة” والتخفيف من عزلتها. وبالمثل، أشار نعمة الله إزادي، سفير طهران السابق في موسكو، إلى أن بلاده وقعت ضحية “عملية خداع” روسية تهدد مصالحها الوطنية، وهو شعور أعرب عنه أيضاً النائب المحافظ المعتدل حشمت الله فلاحت بيشه، الرئيس السابق لـ “لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية” في البرلمان.
كما اتهم علائي وفلاحت بيشه روسيا بتعمد تسريب تفاصيل عن شحنات الطائرات المسيرة لوسائل الإعلام، ما يذكرنا بحلقة سابقة من التوتر الثنائي نجمت عن التفاخر الروسي. ففي عام 2016، أعلنت موسكو عن ترتيب سمحت بموجبه طهران سراً للقاذفات الروسية باستخدام قاعدة جوية إيرانية لضرب أهداف في سوريا. وأثار هذا الإعلان سخط الرأي العام في إيران، مما دفع النظام إلى انتقاد موسكو وإلغاء الاتفاق معها بعد أقل من أسبوع. وعلى الرغم من عدم وجود دليل على أن روسيا قد سربت فعلياً أي تفاصيل هذه المرة، إلا أن المخاوف الإيرانية بشأن جدارة موسكو بالثقة تبدو راسخة جداً.
كما تم الإعراب عن شكوك بشأن العلاقات التجارية. وعلى الرغم من أن مجتمع الأعمال الإيراني يدرك الفرص التي توفرها السوق الاستهلاكية الكبيرة في روسيا وعزلتها الدولية الجديدة، برزت شكوك بشأن مدى استعداد موسكو للالتزام بهذه الجهود حتى النهاية. ففي تشرين الثاني/نوفمبر، نشرت “غرفة تجارة طهران” تقريراً حثت فيه المسؤولين على السعي للحصول على المزيد من فرص الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، مثل زيادة تطوير “ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب” وميناء تشابهار. ولكنها أوصت بتطوير هذه العلاقات بهدوء، بعيداً عن الأضواء الإعلامية والعقوبات الغربية على روسيا. كما أشارت إلى أن طهران يجب ألا تسمح لروسيا “باستخدام «بطاقة إيران» في المحافل الدولية”. وفي تقرير منفصل نُشر في كانون الأول/ديسمبر، انتقدت “غرفة التجارة الإيرانية” سياسة الحكومة المتمثلة في إعطاء الأولوية للعلاقات مع آسيا (وبالتحديد روسيا والصين)، مشيرة إلى أنه “لا يمكن للغرب ولا الشرق أن يحلوا محل بعضهم البعض في الدبلوماسية الاقتصادية الإيرانية”.
توصيات في مجال السياسة العامة
لمفاقمة هذه التوترات الخفية، على الولايات المتحدة تركيز التشديد على نقطتين: مواجهة طهران تكاليف متزايدة مقابل تحالفها مع موسكو، وإمكانية قيام روسيا بخيانة إيران في نهاية المطاف. يجب أن يكون الهدف الرئيسي لمثل هذه الجهود هو ردع عمليات نقل الأسلحة الإيرانية أو الحد منها.
أولاً، على واشنطن تعديل رسائلها. وعلى الرغم من أن المسؤولين الغربيين سبق أن أشاروا إلى مخاطر توسيع العلاقة وفرضوا عقوبات جديدة وضغوط سياسية على طهران، إلا أن نقاط الحوار الأمريكية يجب أن تؤكد أيضاً على احتمالية الاحتكاك وانعدام الثقة بين الشريكين. على سبيل المثال، قد يؤدي الإفصاح عن تفاصيل بشأن صفقاتهما السرية و/أو ترددهما تجاه بعضهما البعض إلى إثارة رد الفعل الأكثر حدة في طهران. يجب على واشنطن أن تفكر في رفع السرية عن مثل هذه المعلومات بحيث تكون قادرة على إثبات صحتها وأن تكون الفوائد المحتملة من الكشف عن هذه المعلومات أكثر تفوقاً من مخاطر الإفصاح عنها. يجدر بالمسؤولين أيضاً التأكيد على أن إيران وروسيا لا تزالان تتنافسان بشدة على الصعيد الاقتصادي، كإسلوب لإثارة الشكوك حول ما إذا كان توطيد العلاقة يستحق العناء.
ثانياً، على واشنطن نشر بعض المعلومات التي يكتسبها الحلفاء الغربيون عن قدرات الطائرات المسيرة الإيرانية في أوكرانيا، بما في ذلك كيفية تصميمها، وكيفية أدائها في المعركة، وكيف بالإمكان اعتراضها. وفي معرض قيام المسؤولين بذلك يجب عليهم التأكيد على الكيفية التي يمكن لهذه الدروس دعم العمل الذي تقوم به الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون لتعزيز الدفاعات في الشرق الأوسط.
ثالثاً، على واشنطن أن تفرض تكلفة اقتصادية أكبر على طهران على خلفية دعمها لروسيا، وبذلك تُظهر للإيرانيين أن هذه المساعدة تضر بهمولا تساعدهم. وعلى الرغم من أن الحكومة الأمريكية قد فرضت أساساً بعض العقوبات رداً على شحنات الطائرات بدون طيار، إلا أن عليها أن تذهب أبعد من ذلك من خلال محاولة خفض الإيرادات التي تجنيها طهران من مبيعات الطاقة. وبذلك، يمكن أن تشير إلى أن كل برميل من النفط الإيراني الذي يتم تهريبه وبيعه، يساعد في تأجيج حرب روسيا في أوكرانيا.
أخيراً، على واشنطن تشجيع “الاتحاد الأوروبي” وبريطانيا على فرض عقوبات جديدة على الكيانات الإيرانية الضالعة في برنامج الطائرات المسيرة، خصوصاً تلك الخاضعة فعلاً للعقوبات من قبل سلطات مكافحة أسلحة الدمار الشامل، بما أنه من المقرر رفع هذه العقوبات في تشرين الأول/أكتوبر بموجب “قرار مجلس الأمن رقم 2231”. وتشمل الكيانات المحتملة التي سيتم استهدافها «الحرس الثوري» الإيراني، و”منظمة الصناعات الجوية”، وشركة “صناعات الطائرات الإيرانية”، و”وزارة الدفاع وإسناد القوات المسلحة”، وشركة “فجر لصناعة الطيران والمواد المركبة”، وشركة “ياس للطيران” (التي سميت لاحقاً باسم “بويا للطيران”)، وشركة “بارس لخدمات الطيران”. وقد فرضت الحكومات الأوروبية أساساًعقوبات متشابهة ومتعددة المستويات وينبغي أن تفعل ذلك مجدداً. على واشنطن أيضاً حث “الاتحاد الأوروبي” وبريطانيا على إضافة «الحرس الثوري» إلى قوائم المنظمات الإرهابية، وقد أفادت بعض التقارير بأن لندن تدرس اتخاذ هذه الخطوة.
معهد واشنطن