تبدي إيران اهتماما بالشأن الأفغاني ومحاولات لطرح حلول لمشكلات البلد المجاور، لكنه اهتمام يخفي من ورائه أهدافا يسعى من خلالها النظام الإيراني لتبييض صورته الحقوقية شديدة السواد خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة.
أبوظبي – بادرت طهران بالإعلان عن استعدادها لاستقبال الفتيات الأفغانيات الراغبات في تلقي تعليمهن الجامعي، عقب اتخاذ حركة طالبان قراراً بإغلاق الجامعات الحكومية والخاصة أمام الفتيات في عموم أفغانستان، إلى أجل غير مسمى، بحجة عدم الالتزام بالزي الإسلامي والقيم الإسلامية.
ويأتي قرار طهران بتقديم تسهيلات للأفغانيات لدخول الجامعات الإيرانية، في وقت يمارس فيه النظام الإيراني انتهاكات واضحة بشأن حقوق المرأة وحريتها، على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ أشهر.
ويطرح ذلك تساؤلات حول أهداف النظام الإيراني من هذا القرار الذي يعني ضمنياً استقبال عدد إضافي من النازحين واللاجئين الأفغان، وهو ما سعت إيران لتقليصه بترحيل ما يقرب من 100 ألف نازح، ووقف استقبال نازحين جدد داخل البلاد، كما شددت إجراءات تصاريح الحصول على الإقامة، وضيقت سُبل العيش على العديد من اللاجئين غير الثبوتيين.
جاء القرار الإيراني في ظل ملابسات عدة، في مقدمتها توتر العلاقة بين النظام الإيراني وحركة طالبان الأفغانية، مع تصاعد حدة التوتر في أكثر من ملف خلافي خلال الفترة الماضية، لعل أبرزها الاشتباكات الحدودية المتكررة بسبب النزاع المائي التاريخي بين البلدين، وسوء معاملة اللاجئين الأفغان في إيران خلال الفترة الماضية.
ودفع الانتقاد الإيراني لقرار طالبان حول منع تعليم المرأة في أفغانستان قادة الحركة إلى دعوة النظام الإيراني إلى “الاهتمام بمشاكله”.
كما تعرض النظام الإيراني لانتقادات داخلية وخارجية غير مسبوقة، عبّر عنها الداخل باحتجاجات هي الأعنف في تاريخ البلاد، وعبّر عنها الخارج بفرض عقوبات دولية على مؤسسات وكيانات متورطة في قمع المتظاهرين.
وتقول الباحثة رانيا مكرم في مقال تحليلي لمركز المستقبل للبحوث والدراسات الإستراتيجية إن إعلان طهران استعدادها لمساعدة الأفغانيات في الحصول على التعليم يحمل تناقضاً واضحاً مع ممارسات النظام الإيراني الفعلية على الأرض، سواء على صعيد التعامل مع اللاجئين والنازحين الأفغان، أو مع حقوق المرأة في إيران والقيود المتزايدة التي يسعى لفرضها عليها.
ويتجلى تناقض إيران خاصة على مستوى إقدامها على ترحيل نازحين واستعدادها لاستقبال مبتعثات جديدات بالإضافة إلى قمع سلطات الملالي الإيرانيات في مقابل حرصها على تعليم الأفغانيات، وشهدت الأشهر الماضية مزيداً من التقييد على النساء في إيران، وذلك بفرض أحد أكثر القوانين إثارة للجدل في البلاد، والذي ظل حبيساً في الأدراج لسنوات طويلة، وهو قانون الحجاب والعفة الذي أقره الرئيس إبراهيم رئيسي في 15 أغسطس 2022، وأعقبته تظاهرات لم تتوقف حتى الآن في الشوارع الإيرانية.
النظام الإيراني وجد فرصة لتبييض وجهه تجاه الانتقادات الموجهة إليه على خلفية القيود التي يفرضها على المرأة
وبالتالي جاء قرار إيران بفتح أبواب جامعاتها للفتيات الأفغانيات ليعرّض النظام الإيراني للاستهجان في الداخل والخارج؛ نظراً لكيله بمكيالين تجاه المرأة، حيث يصطف خلف الأفغانيات إزاء منعهن من التعليم، بينما يمارس أشد أنماط القمع تجاه المرأة الإيرانية.
وتعد إيران واحدة من أكبر الدول المُستقبلة للاجئين الأفغان، ومنح النظام الإيراني عدة مزايا للاجئين الأفغان. بيد أن الأزمات المستمرة التي يعانيها الاقتصاد الإيراني قد أسهمت في تغيير سياسة النظام تجاه هؤلاء اللاجئين، وبصفة خاصة مع تزايد أعداد النازحين عقب سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، حيث منعت إيران دخول المزيد من النازحين إلى البلاد، مكتفية بتسكينهم لفترة قصيرة في مخيمات حدودية تمهيداً لعودتهم مرة أخرى إلى مدنهم وقراهم في الداخل الأفغاني.
ونظراً لتزايد هذه الضغوط الاقتصادية، بدأت موجات من العنف تظهر تجاه اللاجئين الأفغان، وتصاعدت دعوات إعادتهم إلى بلادهم، وبصفة خاصة بعد تورط أفغان في حوادث اغتيال رجال دين سُنة وشيعة في إيران، حيث انتشرت مقاطع فيديو توضح سوء معاملة إيرانيين للاجئين أفغان وتوجيه الإهانة لهم، الأمر الذي دفع حركة طالبان إلى إبداء اعتراضها على سوء معاملة اللاجئين في إيران.
وعلى الجانب الآخر، فإن قرار طهران استقبال المزيد من الطالبات الأفغانيات وتقديم مساعدات لهن في الحصول على أماكن للإقامة وتسهيلات في أوراق الالتحاق بالجامعات، يعني توافد أعداد أخرى من اللاجئات والطالبات. وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها أفغانستان، لا يُتوقع أن تكون كل الطالبات الأفغانيات المتقدمات بطلبات للحصول على فرص الالتحاق بالجامعات الإيرانية، قادرات على تحمل تكلفة الإقامة والتعلم في إيران من دون الانضمام لبرامج الدعم التي ما زالت توفرها الدولة للمقيمين الأفغان في البلاد.
وتقول الباحثة رانيا مكرم إن هناك هدفين رئيسين وراء المبادرة الإيرانية، فعلى الأرجح، تسعى طهران من خلال قرارها بشأن مساعدة الأفغانيات في تلقي تعليمهن الجامعي في إيران إلى تبييض وجه النظام الإيراني فيما يخص حقوق المرأة، إذ يعد ملف حقوق الإنسان وحرية المرأة من أكثر الملفات الخلافية بين إيران والغرب، وأكثرها إثارة للانتقادات الدولية. وتزايدت هذه الانتقادات بشكل كبير عقب إقرار قانون الحجاب والعفة، وممارسة وحدة شرطة الأخلاق عملها في الشارع الإيراني بعنف شديد تجاه الفتيات غير الملتزمات بالحجاب المناسب.
وجدير بالذكر أن العديد من مقاطع الفيديو قد وثقت هذا العنف قبل وفاة مهسا أميني، حيث ظهر مقطع فيديو عقب أيام قليلة من إقرار قانون الحجاب، يظهر عربة شرطة تابعة لوحدة شرطة الأخلاق بمدينة رشت، تُلقي بسيدة لا تُحكم الحجاب على رأسها على قارعة الطريق، وهو الفيديو الذي أثار انتقادات واسعة لوحدة شرطة الأخلاق التي تسببت ممارساتها في اندلاع أطول موجة احتجاجات تشهدها إيران منذ الثورة الإسلامية، ولم يستطع النظام الحاكم إخمادها حتى الآن.
ويبدو أن النظام الإيراني قد وجد فرصة لتبييض وجهه تجاه الانتقادات الموجهة إليه على خلفية القيود التي يفرضها على المرأة في الداخل، وذلك من خلال الإعلان عن قبول المزيد من الطالبات الأفغانيات في الجامعات الإيرانية، وربما سعى أيضاً لتوجيه الانتباه ناحية الفرص التعليمية التي تحظى بها المرأة الإيرانية، وكذلك إلهاء الرأي العام الداخلي بمشكلات الخارج وإلقاء الضوء عليها لتشتيت الانتباه عما يحدث في الداخل الإيراني.
كما ترى الباحثة أن النظام الإيراني يسعى إلى استقطاب الداخل الأفغاني، فمثلما سعت إيران لاستقطاب اللاجئين الأفغان على أراضيها، والاستعانة بهم في تكوين ميليشيات مسلحة تابعة لمؤسسة الحرس الثوري للمحاربة في سوريا، على غرار فيلق “فاطميون”؛ فهي تعمل أيضاً على استقطاب فئات من الداخل الأفغاني، سعياً للحفاظ على النفوذ الإيراني في أفغانستان. وقد بدأت في ذلك من خلال قوافل مساعدات إنسانية للمناطق الشيعية المنكوبة بهجمات تنظيم داعش عليها، ومن خلال مؤسسات خيرية استطاعت أن تجد لها موطئ قدم في أغلب المحافظات الأفغانية، منذ عدة سنوات.
قرار طهران استقبال المزيد من الطالبات الأفغانيات وتقديم مساعدات لهن في الحصول على أماكن للإقامة وتسهيلات في أوراق الالتحاق بالجامعات، يعني توافد أعداد أخرى من اللاجئات والطالبات
وبحسب مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بعنوان “في أفغانستان، الولايات المتحدة تخرج، وإيران تدخل”، بتاريخ 5 أغسطس 2017، يمكن ملاحظة مدى النفوذ الإيراني الناعم في مدينة هرات الأفغانية الواقعة على الحدود الإيرانية المباشرة، والتي يُطلق عليها “إيران الصغرى”، حيث تنتشر فيها المدارس والمكتبات الإيرانية، والعديد من المحال التجارية المملوكة من إيرانيين؛ نظراً إلى كونها إحدى البوابات الحدودية الرئيسية بين البلدين، كما يغلب على زي النساء في هذه المدينة الشادور الإيراني.
وهكذا، فإن قرار حركة طالبان بحظر تعليم الفتيات في الجامعات ربما أتاح المجال أمام إيران لاستقطاب المزيد من العائلات الأفغانية القادرة والراغبة في ابتعاث بناتها إلى إيران للحصول على فرصة تعليم جامعي.
ولعل هذا الاستقطاب قد تجلت ملامحه من خلال إعداد فتيات أفغانيات أغنية باللغة الفارسية تحمل عنوان “برای دختر همسایه” أي “من أجل ابنة الجار”، كمحاولة لإثناء الفتيات الإيرانيات المحتجات عمّا وصفته الأغنية بمحاولات السيطرة عليهن من قِبل الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بأفكار ووعود وصفتها الأغنية بـ”الواهية”، قد تؤدي بإيران إلى المصير نفسه الذي تعانيه أفغانستان الآن. إذ تبدأ الأغنية بمقطع من حديث الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عن حقوق المرأة في أفغانستان، فيما تُفجّر منازل الأفغان، وتُحرم المرأة من العيش بأمان تحت القصف المستمر، ومن فرص التعليم بعد هدم المدارس. وتنتهي الأغنية بمقطع من حديث الرئيس الأميركي جو بايدن عن حقوق المرأة في إيران، وضرورة دعم التظاهرات الداعية إلى حريتها.
وترى رانيا مكرم أنه يمكن القول إن تناقض النظام الإيراني بين ما يعلنه من قرارات وما يمارسه من سياسات على الأرض، كما ظهر في إعلانه مساعدة الأفغانيات على تلقي تعليمهن الجامعي في إيران، هو أمر ليس بالجديد، حيث ينتهج النظام الإيراني ذلك النوع من البراغماتية التي تحقق أهدافه حتى وإن بدت أنماط سلوكه متضاربة.
العرب