بغض النظر عن الحقائق والأدلة التاريخية والسياسية والديموغرافية التي يتسلح بها طرفا الخلاف على ضفتي أو ساحلي مياه الخليج على تسميته، من الدول العربية في الخليج العربي، ومن قبل إيران في الخليج الفارسي، إلا أن الحساسية الإيرانية حول هذه الإشكالية تدفعها في كل مرة يستخدم اسم “الخليج العربي” من الدول العربية المعنية أو غير المعنية أو الدول الغربية وغير العربية، إلى شن حملة تجييش سياسي وشعبي احتجاجاً على هذا الاستخدام الذي تعتبره مساساً بسيادتها وانتقاصاً من موقعها الجيوسياسي في الإقليم لأن مجرد القبول أو التسامح مع هذا الاستخدام ربما يفتح الباب أمام إعادة ترتيب المنطقة على أسس مختلفة تفقدها ما تعتبره ورقة تفوق وهيمنة جيوسياسية وجيواستراتيجية.
وإذا ما كان النظام الإيراني توصل إلى قناعة بعدم إمكانية حل هذه الإشكالية بينه والدول الخليجية، أو دول الساحل العربي للخليج الذي هو أيضاً محل اعتراض إيراني لأنه يسقط الصفة الفارسية عنه، وأن المخرج من هذه الأزمة مع الدول المطلة أو المشاطئة للخليج هو بإعادة ترميم العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والإنسانية معهم، فهي تحاول التعامل مع أي بيان أو موقف يصدر عن هذه الدول في إطار الصراع السياسي والاكتفاء بحملة إدانة واحتجاج سياسي وإعلامي وتأكيد فارسية الخليج والجزر التي يضمها بما فيها مملكة البحرين وعدم الاكتفاء بالجزر الإماراتية الثلاث.
وبات من غير المستغرب أو المستهجن أن يخرج بعض الأشخاص كرئيس تحرير صحيفة “كيهان” الناطقة باسم النظام حسين شريعتمداري للمطالبة بإغلاق مضيق هرمز، رداً على نزع الصفة الفارسية عن الخليج، مما دفع ناشطين سياسيين إيرانيين إلى توجيه سؤال لشريعتمداري فيه كثير من السخرية يتعلق بعدد المرات التي يطلب بها من إيران القيام بإقفال هذا المضيق.
أن تأتي تسمية “الخليج العربي” على لسان مسؤولين وقيادات عراقية، هذا ما لا يمكن للنظام الإيراني أن يتحمله أو يقبل به، لذلك كان رد فعل مختلف القوى السياسية والاجتماعية والمدنية الإيرانية، المحافظة والإصلاحية، متشدداً وغير مسبوق، فاق في حدته أي رد فعل تجاه موقف خرج أو يخرج عن أي من دول مجلس التعاون الخليجي، بخاصة أن استخدام هذه التسمية جاء في تغريدتين واحدة من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والأخيرة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر استخدما فيهما تسمية “الخليج العربي” لمناسبة افتتاح دورة كأس الخليج في كرة القدم “خليجي 25” في مدينة البصرة قبل أيام.
فهل تعيد إيران النظر في تعاملها مع العراق، أم أن الأخير ذاهب إلى نمط جديد من التعامل مع الأولى؟ سؤالان فيهما كثير من التعقيد والإجابة عنهما أكثر تعقيداً وتتداخل فيها عوامل مختلفة ربما تساعد على تفسير ما وصلت إليه الأمور وأدت إلى هذا التوتر في العلاقة بين البلدين.
وعلى رغم الإشارات المبكرة إلى وجود حال نفور شعبي عراقي، الاسم المخفف لحال العداء من الدور والنفوذ الإيرانيين، برز خلال الحراك الذي قاده التيار الصدري عام 2016 والذي شهد أول اختراق للمنطقة الخضراء التي تضم المقار الرسمية للحكومة والسفارات الأجنبية، ورفع خلاله المتظاهرون على مدرجات ساحة الاحتفالات وساحة التحرير شعارات ضد قائد قوة القدس حينها قاسم سليماني والنظام الإيراني، ثم استتبع بحرق القنصلية الإيرانية في البصرة عام 2018، إلا أن النظام الإيراني وقيادته السياسية والميدانية ربما لم تلتقط اتجاهات المزاج العام العراقي الشعبي أو الرسمي الذي يتستر وراء الشارع الشعبي.
لذلك في بداية الحراك الشعبي، أو حراك أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 الذي شهده العراق، وصف المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي الشباب العراقيين الذين خرجوا إلى شوارع المدن في بغداد والوسط والجنوب بأنهم عملاء وأدوات تنفذ مخططات غربية تسعى إلى ضرب المحور الإيراني في المنطقة وأن المستهدف هو محور الممانعة في الشرق الأوسط، داعياً إلى التعامل معهم بحزم لإفشال المخطط الأميركي- الإسرائيلي. وكان سبقه قبل سنة من ذلك، عام 2018 كبير مستشاريه علي أكبر ولايتي بإعلانه من بغداد التي كان يزورها، أن إيران لن تسمح للقوى والتيارات الليبرالية والعلمانية بأن تتسلم السلطة في العراق.
على رغم تراكم وتزايد المؤشرات السياسية والشعبية العراقية في مواجهة السياسات والدور الإيراني في العراق، إلا أن القيادة الإيرانية في طهران وتلك التي تتولى مسؤولية التعامل مع الساحة العراقية مباشرة، لم تلتقط هذه المؤشرات للتعامل معها، أو إعادة النظر في هذه السياسات بما يساعد في تخفيف موجة العداء والمعارضة لدورها ووجودها اللذين توظفهما لمصلحة طرف وتغلب حظوظه مقابل آخر. وهي مؤشرات بدأت بالظهور بشكل واضح بعد هدوء الموجة العاطفية التي نتجت من العملية الأميركية لاغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، ثم تبلورت بشكل واضح في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت بتاريخ 10 أكتوبر 2021 والدور الواضح للتيار الصدري في تحشيد المواقف ضد القوى والأحزاب والفصائل المسلحة الموالية لإيران، وترافقت أيضاً مع بداية انفتاح عراقي جدي على العمق العربي ورغبة عربية حقيقية في تعويض المرحلة الماضية التي أعرضت فيها عن العراق بعد عام 2003.
الانفتاح العربي على العراق لم يأت كمحاولة لتوظيف تنامي الموقف السلبي من إيران ووجودها ونفوذها، بل يدخل في إطار تعريف جديد لنظام المصالح العربية واستعادة الدور الفاعل والمبادرة في إطار التصدي للنفوذ الإيراني الذي استباح دول المنطقة وأثر في شؤونها الداخلية وهدد مصالحها الاستراتيجية.
لذلك، فمن الطبيعي أن يتنامى الشعور الإيراني بإمكانية استبعادهم أو إخراجهم من معادلة التأثير في الموقف والتوجهات السياسية للعراق وتحالفاته الإقليمية، وربما لا تكون الفصائل التي تعتبر وتصنف في خانة الحلفاء والأذرع الإيرانية قادرة على وقف التوجه العراقي للاندماج والذهاب نحو عمقه العربي وتبني سياسات جديدة أو في الأقل متوازنة في علاقته مع هذا العمق وإيران.
ولعل التظاهرة الشعبية التي شهدتها مدينة البصرة التي تحولت إلى ساحة للتعبير عن التضامن والتواصل بين الوافدين العرب والمواطنين العراقيين في أجواء “خليجي 25” كانت بمثابة جرس إنذار للنظام الإيراني الذي استغل استخدام رئيس الوزراء السوداني لتسمية “الخليج العربي” ليعبر عن حجم مخاوفه من التهديد الآتي من العراق الذي قد يخرجه من المعادلة العراقية في المستقبل.
والعامل الآخر الذي يشكل مصدر قلق إيراني هو حجم الاستثمارات الخليجية السعودية والإماراتية والقطرية في العراق والتي تحاول وتسعى إلى تقديم بدائل اقتصادية للبلاد، بخاصة في مجال تزويدها بالطاقة الكهربائية، مما يساعدها على الاستغناء عن الابتزاز الإيراني من إمدادات الطاقة الكهربائية والغازية. وهذا الانفتاح بات يشكل تهديداً جدياً للمصالح الاقتصادية الإيرانية التي كانت تراهن على توظيف الرئة العراقية وأسواقها في مد الاقتصاد الإيراني بالنفس الذي يحتاج إليه لإبقائه على قيد الحياة في ظل العقوبات الدولية المفروضة، وتتزايد يوماً بعد يوم على النظام وتحاول محاصرة جميع المنافذ التي يستخدمها للاستمرار، آخرها العقوبات الأميركية على عدد من البنوك العراقية المشتبه في إجرائها عمليات تبادل مالي بالعملة الصعبة مع إيران، فضلاً عن الصعوبات التي قد تواجه الطموح الإيراني في رفع مستوى التبادل الاقتصادي والتجاري إلى 20 مليار دولار.
اندبندت عربي