أثارت شحنة مساعدات غذائية أرسلتها حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في ليبيا جدلا واسعا في تونس، حيث بدت هذه الخطوة استعراضية وتستهدف إحراج موقف الرئيس قيس سعيد.
وصلت المساعدات الليبية إلى تونس، والتي أطلق عليها الإعلام الموالي لحكومة عبدالحميد الدبيبة صفة الإغاثة، وصلت إلى تونس قبل موجة البرد والثلج بأيام، وهو ما يعني أنها لم تتعلق بوضع طارئ يستدعي إرسال مواد غذائية من زيت وسكر ودقيق وأرز.
إذا تجوّل أيّ زائر في الأسواق التونسية لن يخرج بانطباع أن هناك نقصا في هذه المواد إلى درجة حدوث أزمة حادة تستدعي تدخّل الأشقاء في ليبيا بشكل استعراضي، فتونس ليست في حرب ولا هي تواجه كارثة طبيعية لكي تحتاج إلى مساعدات من دول الجوار بهذا الأسلوب الذي يحمل رسائل منّ واستنقاص وإذلال.
تونس طلبت تمويلات واستثمارات وفتح الأسواق أمام عمالتها وتسهيل دخول شركاتها إلى الأسواق الليبية
نفس هذه الدول سبق أن امتنعت عن تقديم المساعدات التي طلبتها تونس، وهي مساعدات لو حدثت كان سيشعر التونسيون بقيمتها، ويقولون لمن وفّرها لهم ألف شكر.
تونس طلبت تمويلات واستثمارات وفتح الأسواق أمام عمالتها وتسهيل دخول شركاتها إلى الأسواق الليبية ضمن اتفاقيات واضحة سبق أن أبرمها الدبيبة نفسه في زيارته الأخيرة إلى تونس.
ومن بين تلك الاتفاقيات خلاص ديون ومستحقات على ذمة ليبيا لفائدة مؤسسات صحية واستشفائية تونسية كانت استقبلت الليبيين بكثافة خلال ثورة فبراير وما لحقها من صراع بين المجموعات المسلحة في العاصمة طرابلس ومدن أخرى مثل مصراتة والزاوية.
وكان الدبيبة تعهد خلال زيارته الأخيرة إلى تونس في نوفمبر الماضي بـ”تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني ومناقشة عدد من الاتفاقيات التي تساهم في خلق تعاون اقتصادي مثمر وتسهيل عدد من الإجراءات التي تهم المواطنين ورجال الأعمال الليبيين”.
والسؤال الذي يطرحه التونسيون هو لماذا تتأخر حكومة الدبيبة في تنفيذ تعهداتها، وهي تعرف أن تلك التعهدات هي البوابة الرئيسية للتنفيس عن تونس ومساعدتها على التعافي من الأزمة الحادة التي تعيشها، أيهما أهم وأكثر فاعلية تنفيذ اتفاقيات تعزز الاستثمار وتستقطب العمالة وتحرك دواليب الاقتصاد أم مساعدات عينية لدولة حكومتها قائمة ومتماسكة، وتحدث تأثيرا عكسيا على صورة ليبيا وعلاقتها بتونس.
الكثير من الناس تعاملوا مع طابور الشاحنات الذي أرسل إلى تونس، وفيه مواد غذائية بعضها إنتاج تونسي مهرّب بطرق غير قانونية إلى السوق الليبية، على أنه استعراض سياسي يستهدف صورة تونس ورئيسها قيس سعيد، خاصة أن حكومة الدبيبة هي جزء من تحالف إقليمي يضم الجزائر وتركيا وقطر لا يرتاح لحكم قيس سعيد بسبب موقفه من الإسلاميين.
نفس تلك الوعود تلقتها تونس وقيس سعيد من الجزائر، لكن إلى حد الآن لم يطرأ شيء جديد مع أن طلبات تونس ليست كبيرة قياسا بالعائدات المالية المهمة التي يحصل عليها الجاران من النفط والغاز، وهو يؤكد أن التسويف والمماطلة هدفه سياسي بالدرجة الأولى، وهو أمر يبدو أن قيس سعيد يحاول أن يقفز عليه ويراهن خاصة على ثقته في العلاقة المتينة مع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون.
ولام الكثير من التونسيين حكومة نجلاء بودن على قبول المساعدات المرسلة من حكومة الدبيبة بدل رفضها، أو على الأقل إصدار موقف بشأن الطريقة التي تم من خلالها إرسال هذه الشحنات في شكل استعراضي يوحي وكأن البلاد في وضع كارثي.
كما أن الحكومة، التي قبلت المساعدات، لم تقل هل إن ذلك تم باتفاق مسبق مع حكومة الدبيبة وعبر قنوات رسمية أم إنها فوجئت مثل مواطنيها بهذه الحركة، فارتبكت وقبلت المساعدات خشية توتير العلقة مع الجارة ليبيا، وخوفا على وعود الاستثمار وفتح الأبواب أمام التونسيين لدخول ليبيا، وهو رهان خاطئ لأن العلاقات بين الحكومات تتم على الوضوح والندية، وليس من حق أيّ حكومة أن تتنازل على حساب كرامة مواطنيها أيا كانت حساباتها.
فضلا على ذلك فإنه لا أحد سيضمن استمرار حكومة الدبيبة في حكم غرب ليبيا في ظل الحراك الذي يدفع نحو حل سياسي في ليبيا ينتهي إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تضفي الشرعية على المؤسسات وتتخلى عن الأجسام الانتقالية ومن بينها حكومة الدبيبة.
ولا شك أن المساعدات المستفزة التي جاءت من ليبيا ستجعل التونسيين يعرفون أن الحل في الخروج من الأزمة بأيديهم لوحدهم، وأن السعي لاستثمار “إغاثة” حكومة الدبيبة ضد قيس سعيد لا معنى له، خاصة أن الحركة المستفزة كانت موجهة إلى البلد الذي قادته الصراعات السياسية والنقابية منذ ثورة 2011 إلى الفوضى وأعاقت نشاط اقتصاده، وهو ما يعني أن المسؤولية جماعية عمّا وصلت إليه تونس.
يحتاج السياسيون التونسيون من هم في المعارضة أو في السلطة كي يقفوا لحظة وينظروا حواليهم ليكتشفوا أن لا أحد يهتم بأزمة بلادهم طالما هم أنفسهم ليسوا مهتمين بالبحث لها عن حلول واقعية وممكنة والكف عن التوهم بأن الحلول يمكن أن تأتي لوحدها من الخارج، من الجيران أو من غيرهم، وأن الدولة التي باتت خزينتها خاوية بسبب الصراعات يمكن أن يستفيق الناس يوما ليجدوا أنها ملأى بالذهب والملايين من الدولارات.
كان يمكن أن تُحدث المساعدات الليبية، التي تمس من صورة تونس، صدمة إيجابية تفيق كل الطبقة السياسية على الوضع الذي آلت إليه البلاد، وتدفعها إلى مراجعة خيارات الهروب إلى الأمام الذي تعتمده منذ ثورة 2011، ويقوم على هدم المعبد على من فيه من أجل تحقيق المصالح الحزبية.
إن الأزمة بلغت حدا كبيرا يحتاج إلى عقل وطني لا إلى حسابات سياسية: ماذا لو استمرت المكابرة ورفض صندوق النقد تمكين تونس من القرض، وامتنعت دول الخليج عن تقديم جرعات الإنقاذ، وهو أمر وارد، خاصة بعد تصريحات سعودية تقول إن المملكة ستقطع مع المساعدات التي لا تأتي عبر مؤسسات مالية دولية وضمن مسار لإصلاحات اقتصادية.
إذا استمر الاتحاد في الضغط لمنع الاتفاق مع صندوق النقد، ومرت الأحزاب إلى لعبتها في امتهان البيانات التي تصور البلاد في أسوأ حال، واستمر قيس سعيد في سد أذنيه عن سماع الأصوات المعارضة، وتشبث بالحكم على الطريقة التي يريدها هو، من لتونس كي يخرجها من أزمتها؟ كيف يمكن أن يثق الخارج في طبقة سياسية تنظر فقط إلى مصالحها الخاصة؟
إن الحكومات التي جاءت بعد ثورة 2011 لم تفعل شيئا لحل الأزمة الاقتصادية. ولا يمكن حصر الأزمة في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فهو ليس إلا نقطة صغيرة من بحر التغيير المطلوب، وهناك خطوات كثيرة يمكن مواجهتها داخليا، من مثل تقليص الإنفاق الحكومي، فهناك تبديد للمال العام في مستويات مختلفة تحت عناوين فضفاضة لا يمكن أن تقبل بها دولة تريد أن تتقشف. وهناك فساد إداري واسع، وانتدابات عشوائية تتحكم فيها عوامل السياسة والنقابة والمحسوبية.
البلاد يجب أن تضع حدا لكل هذا، لكن بتوليفة جماعية.
العرب