إسرائيل أمام “الدرس التركي”: ماذا بقي للديمقراطية غير الانتخابات؟

إسرائيل أمام “الدرس التركي”: ماذا بقي للديمقراطية غير الانتخابات؟

المقارنة بين الخطر على الديمقراطية في إسرائيل وما يحدث في تركيا تحت حكم رجب طيب أردوغان، هي أفضل من المقارنة مع بولندا أو هنغاريا. أولاً، مثلما في إسرائيل، الشعب التركي منقسم؛ فيه مجموعة تقليدية ودينية محافظة، معظمها موجود في الضواحي، ومجموعة حضرية تميل إلى العلمانية والليبرالية وتسمى في الخطاب الداخلي “الأتراك البيض”. ثانياً، مثل الإسرائيليين أيضاً، يعيش الأتراك مع شعور بالتهديد من الدول المجاورة، ويضطرون للتعامل مع طموحات الاستقلال لأقلية داخلية كبيرة، الأكراد في حالتهم. في النهاية، سيطر على تركيا قبل عشرين سنة تحالف من القوى الدينية الأصولية والوطنية المتطرفة، التي تشبه الائتلاف الإسرائيلي الحالي. ويمكننا تعلم قدر غير قليل من العملية التي مرت بها، والفروق بين الدولتين.

تحتفل تركيا في هذه السنة بالذكرى المئة على إقامتها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. ولكن خلافاً لإسرائيل، فإنها في معظم سنواتها كانت ديمقراطية، وبعد تجربة قصيرة لفتح الساحة السياسية في منتصف القرن الماضي قرر الجيش، حارس جمرة النظام العلماني الذي أوجده مصطفى كمال أتاتورك، ترسيم الحدود المسموحة والممنوعة بشكل واضح. وفي كل مرة انحرف فيها النظام المنتخب عن الاتجاه الذي رسمه المؤسس، تدخل الجيش في السياسة لإزاحة الحكومة المنتخبة وتثبيت الحدود مرة أخرى. واستعان الجيش في كل هذه المرات بجهات مدنية أيدت تدخله وشجعته.

في العام 1997، في حادثة يسميها الأتراك “الانقلاب ما بعد الحداثة”، لأنها تمت عن بعد وبدون استخدام القوة، أمر الجيش بإخراج حزب “الرفاه”، حزب رئيس الحكومة نجم الدين أربكان، خارج القانون. قاد أربكان سياسة دينية واضحة اضطرته إلى تقديم استقالته وحل الحكومة. ولكنها أحداث رسمت بداية ضعف النخبة العسكرية. كانت لهذا أسباب كثيرة، على رأسها تطلع تركيا إلى قبولها في الاتحاد الأوروبي. كجزء من الإصلاحات الديمقراطية التي طلبها الأوروبيون، وافقت تركيا على فصل الجيش عن السياسة. وثمة عامل آخر للتغيير، وهو اندماج متزايد لتركيا في الاقتصاد العالمي. رجال أعمال في الدولة وخارجها طلبوا ضمانات لحرية سياسية كشرط للاستثمار.

العقد الأول لسنوات الألفية كان العهد الذهبي للديمقراطية في تركيا بقيادة الاقتصادي الرفيع كمال درويش الذي تم عُين وزيراً في البلقان والعالم العربي؛ ونمت وسائل إعلام جديدة من اليسار واليمين، وإلى جانبها صحف دينية ديناميكية؛ كما أزيل التهديد العسكري عن جهاز القضاء.

في أجواء الانفتاح هذه، صعد إلى السلطة حزب “العدالة والتنمية” المحافظ في 2002. رئيس الحزب أردوغان، الذي كان في السابق رئيس بلدية ناجح لإسطنبول، كان في تلك الفترة يقضي عقوبة بالسجن بسبب اقتباس أغنية في تجمع للجمهور: “المآذن حرابنا/ القبب خوذاتنا/ المساجد معسكراتنا والأئمة جنودنا”. عندما أطلق سراحه، تسلم زمام السلطة. في سنواته الأولى كرئيس للحكومة، سمح أردوغان للصحف وسلك الأكاديميا بالتعبير عن الرأي بحرية. تصرفت المحاكم بدون أي قيود تقريباً، وتجرأ الأكاديميا حتى على مناقشة مذبحة الأرمن في الحرب العالمية الأولى بجدية. رغم موقف أردوغان الديني، ظل عداؤه الأساسي لإسرائيل، وأبقى علاقاته السابقة مع الإخوان المسلمين. كما واصل الجيش بقوة كبيرة علاقاته مع الجيش الإسرائيلي.

لكن العهد الذهبي كان قصيراً. ففي انتخابات 2007 حاول قادة الجيش تكرار الانقلاب الهادئ من العام 1997، لكن هذه المرة، ومع قيود وضعها على الجيش وخوف المؤسسة السياسية المدنية من تأييده، نجح حزب العدالة والتنمية في الفوز في الانتخابات مرة أخرى، ويواصل الاحتفاظ بالسلطة. أدرك أردوغان بأن المؤسسة العسكرية عاجزة أمام حكمه، من هنا بدأ رحلته نحو سلطة الفرد، التي وضعت حداً للديمقراطية الفتية.

هناك عدة نقاط مهمة ومميزة في الطريق: في 2009 – 2010 قدم الكثيرين من قادة الجيش للمحاكمة بتهمة التخطيط لانقلاب. وتم الحكم عليهم وعلى المدنيين الذين ساعدوهم، بفترات سجن طويلة؛ في 2013 اندلعت مظاهرات ضخمة حول نية هدم حديقة غازي في وسط إسطنبول، التي هي من رموز النظام العلماني. قوضت المظاهرات الشعور بالأمان لدى النظام، وسارع أردوغان إلى السيطرة على جهاز النيابة العامة، وقمع الصحف الحرة والتأشير على سلسلة أعداء في المؤسسة، بمن فيهم الواعظ الديني فتح الله غولن، الذي كان حتى ذلك الوقت حليفه المقرب.

كانت الضربة القاضية للديمقراطية عقب محاولة الانقلاب الفاشل في 2016 عندما لاحقه عملاء النظام حتى في مرحلة التخطيط. بعد إحباط الانقلاب، استكمل أردوغان السيطرة. بناء على طلب منه، تم تغيير أسلوب الحكم من برلماني إلى رئاسي، واختفت توازنات قوته وكوابحها الأخرى بالكامل. لقد تم حظر نشاطات بعض الأحزاب، وفقدت المحاكم ما بقي من استقلاليتها، واختفت الصحف الحرة، وتم اعتقال عشرات الصحف والمحاضرين في الجامعات لفترات طويلة، وأقيل آخرون، وصودرت جوازات سفرهم، واستبدل برؤساء شركات ومنظمات وجامعات أشخاص مخلصون للنظام، وتم تطهير الشرطة والجيش من كل من اتهم بالتعاطف مع “الكمالية” أو تأييد منظمة غولن.

الأثر الوحيد الذي بقي للديمقراطية في تركيا الحالية هو الانتخابات الحرة كما يبدو. يمكن التساؤل وبحق ما هو معنى حرية الانتخاب، في الوقت الذي تسيطر فيه الحكومة على وسائل الإعلام والأكاديميا والمحاكم، وتفرض الرعب على كل من يعارضها. في هذه الظروف، عندما أصبحت المعارضة ضعيفة ومنقسمة وباتت حراب النظام مرفوعة فوق رأسها، نجحت المعارضة في السيطرة على المدن الكبيرة مثل إسطنبول وأنقرة، وشكلت تحدياً صعباً أمام اردوغان.

في الانتخابات القادمة في 18 حزيران القادم، سنعرف إذا بقيت فرصة للديمقراطية في تركيا. وإسرائيل؟ لأن التقليد الديمقراطي الإسرائيلي أطول وأكثر استقراراً، ربما ستستطيع النجاة من مصير مشابه.

القدس العربي