رضخت السلطات النقدية اللبنانية للأمر الواقع مرة أخرى في مطاردتها للقيمة المتلاشية لليرة في السوق السوداء، في مسعى يشكك محللون في جدواه وسط ازدهار التجارة بـ”الكاش” رغم أن الخطوة تأتي في سياق مجاراة وتيرة التقلبات الاقتصادية المتسارعة.
بيروت – استفاق اللبنانيون والأسواق التجارية الأربعاء على بدء التعامل بالسعر الجديد لليرة، وهو أول خفض للعملة المنهارة أصلا منذ ربع قرن، في خطوة يقول محللون إنها محفوفة بالمخاطر كونها ستدمر القدرة الشرائية للناس وتحطم الأعمال وتغذي التعامل بالنقد.
وبعد تأخير تطبيق الخطوة لأربعة أشهر، أعلن مصرف لبنان المركزي في بيان أن السعر الرسمي للدولار الأميركي بات عند 15 ألف ليرة، مما يشكل خفضا عن السعر السابق بنسبة 90 في المئة.
ومع ذلك، سيبقى السعر الجديد أقل أربع مرات تقريبا من القيمة الحقيقية للّيرة في السوق الموازية، حيث يحوم تداول العملة الأميركية عند 60.5 ألف ليرة. وسينطبق السعر الجديد على عمليات السحب بالليرة من الحسابات المصرفية بالدولار.
ويرجح محللون أن يكون لهذا التحول تأثير أقل على الاقتصاد عموما، المعتمد على الدولار بشكل متزايد وتتم فيه معظم التعاملات وفقا لسعر السوق الموازية.
وطبقت السلطات النقدية سعرا ثابتا للصرف منذ 1997، لكن مع اشتداد أزمة شح الدولار وتبخر الاحتياطات النقدية لم تجد بيروت بدا من دخول مغامرة خفض عملتها.
وبالإضافة إلى أسعار الصرف الرسمية والموازية، أقرت السلطات أسعارا أخرى أثناء الأزمة، ومنها “غير ملائمة” للسحب بالليرة من الودائع بالعملة الصعبة.
وتأتي الخطوة منسجمة مع مطالب صندوق النقد الدولي بتنفيذ إصلاحات للإفراج عن مساعدة للبلاد، ومن بينها توحيد سعر الصرف وتعديل قانون السرية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإقرار قانون بشأن مراقبة رؤوس الأموال.
وقال حاكم المركزي رياض سلامة إن “التغيير خطوة نحو توحيد أسعار الصرف المتعددة ويأتي تماشيا مع مطالب صندوق النقد”.
ويشهد البلد الغارق في العجز منذ 2019 انهيارا اقتصاديا صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، وخسرت معه العملة 95 في المئة من قيمتها، وبات أكثر من 80 في المئة من سكانه تحت خط الفقر.
ويتفق محللون على أن تهرب الحكومات المتعاقبة من تنفيذ الإصلاحات أدى إلى تفاقم انحدار كافة المؤشرات. وأكدوا أن ساعة الحقيقة حانت ولم يعد بالإمكان تأجيل حسم الموقف الصعب الذي يضغط لاتخاذ الإجراءات العاجلة.
وفي واقع الحال، تسود حالة من التشاؤم بين اللبنانيين من السقوط في حفرة أزمات أعمق، حيث يدفع انحدار الليرة أسعار السلع إلى الارتفاع بشكل أكبر.
وتعاني كافة مناطق البلاد من ارتفاع كبير في التضخم، الذي يتجاوز 170 في المئة، وسط تدني دخل المواطنين وتبخر قيمة الرواتب، واعتماد غالبيتهم على التحويلات الخارجية من ذويهم.
ودأب المركزي على إصدار قرارات لسد الفجوة في قيمة الليرة لوضع حد لانخفاضها مؤقتا، بيد أنها استمرت في التراجع بشكل مطرد لفترة طويلة.
ويقول خبراء إن مرد ذلك هو فشل السياسيين في تنفيذ إصلاحات من شأنها أن تطلق برنامجا بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد، والذي يُنظر إليه على أنه ضروري للتعافي من الأزمة.
ولا يبدو أن الخلافات السياسية وحدها التي تقف أمام القيام بأي خطط إصلاحية طال انتظارها، وإنما الجانب الأكبر له علاقة باستقرار السوق المحلية حتى مع وضعها السيء.
ونتيجة للأزمة، أصبح النقد هو الملك، بعدما أدى الانهيار المستمر إلى ضمور القطاع المصرفي وتفاقم الوضع بسبب السياسيين الذين كانوا يشيدون بالوضع المالي في السابق.
وقال نسيب غبريل كبير الاقتصاديين ببنك بيبلوس لرويترز إن استمرار انخفاض الليرة يعني أن الاقتصاد النقدي بات الآن “مدولرا أيضا حيث يمثل الدولار ما بين 70 أو 80 في المئة من العمليات بلبنان”.
وجمدت البنوك مليارات الدولارات من أموال المودعين، وأوقفت الخدمات الأساسية مما دفع بعض العملاء إلى الذهاب للحصول على أموالهم وهم يحملون السلاح.
ويتعامل الأفراد والشركات الآن حصريا نقدا، فيما يستخدم اللبنانيون تطبيقات الهاتف المحمول لمتابعة سعر الليرة. وبحسب رويترز نقلا عن وثائق مصرفية، فقد تضخمت العملة المحلية المتداولة 12 ضعفا منذ سبتمبر 2019 حتى نوفمبر الماضي.
وعلقت معظم المطاعم والمقاهي لافتات تعتذر فيها عن قبول بطاقات الائتمان، لكنها تتقاضى الدولار وفق أسعار السوق الموازية المتقلبة هي الأخرى.
وتنتقل سيارات شركات الصرافة إلى المكاتب أو المنازل لإجراء المعاملات، فيما تنتشر على الطرقات السريعة لوحات إعلانية عن ماكينات عد النقود.
ومع عدم استعمال بطاقات الائتمان، يوثق الأشخاص المعاملات الكبيرة عن طريق التقاط صور لفواتير الدولار المستخدمة مع إظهار الأرقام التسلسلية.
وحتى الدولة، التي أصاب الشلل مفاصلها إلى حد كبير تتجه نحو الاقتصاد النقدي، إذ تدرس وزارة المالية مطالبة التجار بدفع بعض الرسوم الجمركية التي زادت مؤخرا نقدا.
وبسبب تزايد الأوراق النقدية المتداولة ارتفعت معدلات الجريمة. وقال إيلي أناتيان الرئيس التنفيذي لشركة سلفادو للأمن إن “المبيعات السنوية للخزائن نمت باطراد مع زيادة بنسبة 15 في المئة في عام 2022”.
وتتعثر أعمال تجارية أخرى. فيستورد عمر شحيمي شحنات أصغر لمتجر الأجهزة المنزلية الذي يملكه بالنقود التي بحوزته في ظل توقف البنوك عن منح خطابات الاعتماد للصفقات الكبيرة.
وقال وهو يفحص فاتورة بعشرين دولارا قيمة سخان كهربائي اشتراه أحد الزبائن “حتى الشركات التي نستورد منها مثل سامسونغ وأل.جي تتعامل معنا بالنقد”.
ويتوقف أي انتعاش على الإجراءات الحكومية لمعالجة النظام المالي، لكن السياسيين والمصرفيين ذوي المصالح الخاصة قاوموا الإصلاحات.
ويقول بول أبي نصر وهو رئيس تنفيذي لشركة نسيج إن الاقتصاد النقدي جعل من “المستحيل عمليا” فرض الضرائب “لأن كل شيء يمكن ببساطة أن يبقى خارج البنوك”.
وتابع “قدرة الحكومة على تحقيق الانضباط المالي تتوقف على هذا”، مضيفا أن الاقتصاد النقدي يهدد أيضا بإدراج لبنان على قائمة الدول التي تتقاعس في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
وتساور هذه المخاوف أيضا الحكومات الغربية، وقال دبلوماسي غربي لرويترز إنها “تخشى من تزايد التعاملات غير المشروعة حيث يصعب تعقب النقد”.
وقال محمد شمس الدين الخبير الاقتصادي في الدولية للمعلومات وهي شركة دراسات وأبحاث لبنانية إنه “عندما يتحول الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي يعني انهيار الاقتصاد”.
العرب