دأب علماء السياسة عقب الحرب العالمية الثانية والقلق من نظام القطبية الثنائية على الاستقرار الدولى، على البحث فى النظم الاقليمية، التى يمكن أن تخفف من حدة الصراع الدولى، وهكذا أنشئت جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأمريكية ولاحقا منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقى الآن) والاتحاد الأوروبى ـ ومجموعة الآسيان ومنظمة شنغهاى للتعاون وغيرها، ومن المعلوم أن هذه المنظمات ـ رغم أهميتها ـ لم تمس ركيزة العلاقات الدولية القائمة على العلاقات الثنائية برغم امتدادها إلى أكثر عدد ممكن من الدول سواء للتنسيق الإقليمى أو التعاون الجماعى، وتقدم العلاقات العربية ـ العربية نموذجا فريدا للعلاقات الإقليمية التى تضع نصب أعينها تحقيق المصالح القومية العليا لكل أطرافها، فمنذ مؤتمرات القمة العربية عام 1964 صار هناك اتفاق على مفهوم الأمن القومى العربى وتحديد مصادر تهديده وتحديد وسائل مواجهتها، وتم تفعيل معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين الدول العربية أكثر من مرة بغرض تعبئة القدرات العربية لصيانة الأمن القومى العربى والمصالح القومية العليا.
والحقيقة أن التنسيق والتعاون والتكامل العربى شهد انطلاقة كبرى فى حرب 1973 المجيدة، حيث شاركت قوات عربية وأسلحة مشتركة فى دعم مصر وسوريا أثناء الحرب، وبعدها، وكان قرار المرحوم الملك فيصل، ومعه المرحوم الشيخ زايد بوقف البترول عن الدول المساندة لإسرائيل تتويجا للعلاقات العربية فى أبعادها الاستراتيجية، ومنذ ذلك الحين تضافرت الجهود العربية سواء فى أبعادها الثنائية أو الجماعية من أجل الإعلاء بالمصالح القومية العليا، وهى التى تمس المواطن العربى أينما كان، ولم تبخل الدول العربية عن تقديم كل ما تتطلبه التنمية العربية من مساندة ودعم، ولذلك اتسمت العلاقات العربية ـ العربية بدرجة عالية من الإيثار، ودرجة أعلى من التفاهم والحرص علي درء التهديدات الخارجية، واحتواء المخاطر الداخلية، ففى الوقت الذى صار تهديد دول الجوار غير العربية على الأبواب، تجمعت قوى الإرهاب الدينى داخليا لزعزعة الاستقرار العربى، وهكذا انتقلت العلاقات العربية ـ العربية إلى مستوى جديد من التنسيق والتعاون الإستراتيجى للحد من التهديدات الخارجية، ومواجهة قوى الإرهاب الداخلية، وشكل التنسيق والتعاون الإستراتيجى بين مصر والسعودية والإمارات فى هذا الشأن نموذجا ناجحا فعالا لتحقيق الاستقرار والمضى قدما ببناء نظام تنموى عصرى لكل دولة عربية، ولقد استطاعت استراتيجية التنمية المستدامة 2030 فى مصر والسعودية والإمارات أن تدفع كل دولة إلى تعبئة مواردها الطبيعية والبشرية بغرض تحقيق أبعاد تلك الاستراتيجية والوفاء بحق المجتمع فى الانطلاق والتعيير الكيفى، ومن المؤكد أن كل طرف له رؤيته الوطنية الخالصة، التى تتباين وسائل وأدوات تحقيقها دون أن تخل بالالتزامات الثابتة نحو المصالح القومية العليا.
وامتدادا للالتزام بالأمن القومى العربى، فقد تم إنشاء مجلس الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، الذى يضم إلى جانب مصر والسعودية كلا من الأردن وجيبوتى والسودان واليمن ومقره الرياض، ويستهدف حماية أمن البحر الأحمر، وتأمين التجارة الدولية فى بحر عدن ومضيق باب المندب، وحماية وضمان مرور سفن البترول عبر قناة السويس، وهناك تنسيق استراتيجى وأمنى بين القوات المسلحة المصرية والسعودية، ومناورات مشتركة للقوات البحرية (الموج الأحمر5) والجوية (فيصل 12) للبلدين، وكان إنشاء هذا المجلس، وما ارتبط به من تعاون وتنسيق عسكرى وأمنى ردا عمليا على محاولات إنشاء منظمات أمنية تضم دولا غير عربية قد تكون هى ذاتها مصدرا للتهديد، وما كان يمكن أن يتم هذا التعاون العسكرى والأمنى لولا التوافق الأخوى بين القيادتين السعودية والمصرية.
فى إطار تحليل العلاقات العربية العربية لا يمكن الاقتصار على الابعاد الاستراتيجية والأمنية لها، دون التطرق للأبعاد الإنسانية، فقد شهدت الفترة ما بين 1973 واليوم سفر ملايين المصريين للعمل فى الدول العربية، والمشاركة فى عمليات النهوض بها، خصوصا الإمارات والسعودية، وشهدت الفترة ذاتها تدفقات مالية أسهمت فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، صحيح أنه لم تتخذ الدول العربية خطوات كبرى نحو الانتقال الحر دون تأشيرات دخول، كما هو الحال بين دول الاتحاد الأوروبى، لكن تظل حركة الملايين من الخبراء والمهنيين إلى دول الخليج العربية دليلا على الترابط بين الشعوب العربية، وانسياب العلاقات الإنسانية التى تجذر المصالح القومية العربية.
وفى إطار الغموض المحيط بمستقبل النظام الدولى، وعدم اليقين حول نهاية الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد العنف داخل الأراضى الفلسطينية، وغير ذلك من عدم اليقين الإقليمى فقد صار من الضرورى الدفع بالعلاقات العربية ـ العربية إلى مستوى أعلى من التنسيق ومرتبة أرقى من التعاون للارتقاء بالمكانة العربية فى النظام الدولى المقبل، سواء كان تعدديا أو غير ذلك. لقد حان وقت الاتفاق القومى على الخطوات الاستباقية الحتمية للحفاظ على مصالح الوطن العربى فى هذه الظروف الصعبة، وقد تأتى المبادرة العربية المشتركة من جانب مصر والسعودية والإمارات كخطوة أولى نحو التعبئة العربية المنتظرة والحتمية.
د. عبد المنعم النشاط
صحيفة الأهرام