الليرة اللبنانية في بئر بلا قاع

الليرة اللبنانية في بئر بلا قاع

تواصل الليرة اللبنانية انحدارها نحو هاوية مجهولة، في حين تتواصل مختلف الاختلاسات وما يزال منصب رئاسة الجمهورية شاغراً، وفي ظل لا مبالاة “المجتمع الدولي”، بينما أصبح ثلاثة أرباع السكان تحت خط الفقر.

منذ الأزمة السياسية والاقتصادية في خريف العام 2019، لم يعد هناك سعر رسمي واحد لليرة، بل أسعار عدة تتغير بدورها وفقا للظروف واللوائح، وتجعل الكثيرين يفقدون عقولهم.

وعلى مدى ربع قرن، تم ربط العملة الوطنية بالدولار وتحديد سعر الدولار بـ1500 ليرة لبنانية، تحت إدارة حاكم مصرف لبنان غير القابل للتنحية رياض سلامة، مما سمح بنوع من الاستقرار للبلاد.

وتمثلت الوصفة المعجزة لحاكم مصرف لبنان، الذي تمرّس في شركة الوساطة “ميريل لينتش“، في تعويض العجز الهيكلي من خلال مكافأة الرساميل بسخاء بقصد جذبها إلى لبنان، وبواسطة قطاع مصرفي متواطئ انتفخ حجمه إلى أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد.
* * *
شهدت الليرة اللبنانية في نهاية شهر كانون الثاني (يناير) 2023 انهياراً في قيمتها مقابل الدولار، ليصل إلى أربعين ضعف ما كانت عليه قبل أكثر من ثلاث سنوات بقليل، مع أزمة تطال جميع قطاعات البلاد.

ووصل الدولار الواحد -وهو العملة المرجعية في لبنان- في يوم الخميس الأسود 26 كانون الثاني (يناير) 2023 إلى ذروة 64 ألف ليرة بينما كان يعادل 50 ألفًا قبلها بأيام قليلة.

وفي خريف العام 2022، كان يتم تبادل العملة الوطنية بـ30 ألف ليرة للدولار الواحد في السوق الحرة، من دون أن تتمكن تدخلات مصرف لبنان (البنك المركزي) من دعمها ضد تراجعها المحتوم.

وفي نهاية آخر أسبوع من كانون الثاني (يناير) 2023، تغيرت قيمة الليرة مرة أخرى لتصل إلى 56 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، في حركة صعود ونزول بلا هوادة أصبح لبنان معتادًا عليها مؤخرًا.

لم تعد العملة اللبنانية ظل نفسها فقط، بل أصبحت ظل ظلها، ومن المرجح أن يستمر ذلك في سوق تهيمن عليه المناورات والتلاعبات اليومية لسماسرة البورصة الذين يفرضون سلطانهم، علماً بأن بعضهم مرتبط بأحزاب سياسية، بينما تتابع السلطات الكارثة وهي شبه عاجزة.

في 23 كانون الثاني (يناير) 2023، أعلنت الخزينة الأميركية فرض عقوبات على سمسار لبناني، وكذلك على أبنائه وشركته، بسبب صلاته المالية المزعومة بحزب الله الموالي لإيران، والمدرج على القائمة السوداء الأميركية.

ولكن بالنسبة لحلفاء حزب الله، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها هم الذين يدفعون نحو زعزعة استقرار البلاد من خلال هذا النوع من الأعمال، وسياسة العقوبات ضد الأشخاص والمؤسسات المقربين بشكل أو بآخر من الحركة الشيعية.

يقول لبناني يائس يقيم بين العاصمة اللبنانية والفرنسية في ظروف سيئة في كلتا المدينتين: “إنني أعود إلى لبنان على مضض لرؤية كبار الأهل، ثم أرحل مجدداً إلى فرنسا (…) كل هذا يدعو إلى اليأس.

في البلدان الأخرى التي تأثرت بشدة بالأزمة، ينزل الناس بالآلاف إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم، بينما لا يوجد هنا شيء على الإطلاق، أو لا يكاد يوجد”، وذلك منذ المظاهرات الضخمة التي حدثت نهاية العام 2019، والتي شهدت انتفاضة جماعية للمواطنين ضد الطبقة الحاكمة والفساد، ولكن بلا جدوى في نهاية المطاف.

وقد أصبح الهواء في العاصمة اللبنانية -حرفيا- غير قابل للاستنشاق. ويقول جان بيار ميغارباني، مع أنه يعيش في منطقة سكنية راقية: “صرنا ننتظر بفارغ الصبر عطلة نهاية الأسبوع للهروب من روائح صناديق القمامة التي تدخل من النوافذ بمجرد فتحها”.

“كوستا برافا لبنان”

في “كوستا برافا، لبنان” -وهو فيلم جميل وخانق في آن واحد حظي بالاهتمام في العديد من المهرجانات الدولية- تفحص المخرجة اللبنانية الشابة منية عقل حالة بلد يسير على غير هدى.

ويروي الفيلم قصة عائلة فرّت من المدينة الكبيرة وروائحها الكريهة للاحتماء في الجبال الخضراء. ولكن، اتضح فيما بعد أن اختيارها كان خاطئاً، حيث لحقتهم أكياس القمامة التي تُرمى وتتراكم حول كوخهم في وسط الأشجار.

وهكذا تتحول تجربة اللجوء الى الجبل إلى كابوس، لتبدأ الأسرة في التفكك بدورها، على غرار الدولة وعُملتها.

منذ الأزمة السياسية والاقتصادية في خريف العام 2019، لم يعد هناك سعر رسمي واحد لليرة، بل أسعار عدة تتغير بدورها وفقا للظروف واللوائح، وتجعل الكثيرين يفقدون عقولهم.

وعلى مدى ربع قرن، تم ربط العملة الوطنية بالدولار وتحديد سعر الدولار بـ1500 ليرة لبنانية، تحت إدارة حاكم مصرف لبنان غير القابل للتنحية رياض سلامة، مما سمح بنوع من الاستقرار للبلاد.

وتمثلت الوصفة المعجزة لحاكم مصرف لبنان، الذي تمرس في شركة الوساطة “ميريل لينتش”، في تعويض العجز الهيكلي من خلال مكافأة الرساميل بسخاء بقصد جذبها إلى لبنان، وبواسطة قطاع مصرفي متواطئ انتفخ حجمه إلى أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد، وفقاً للخبراء.

ويجمع هذا الرجل البالغ من العمر 72 عامًا، ألقاب المجد من المصرفيين العالميين ووكالات التصنيف، على الرغم من نقاط الضعف الصارخة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني.

صحيح أنه أسهم في استقرار الليرة لسنوات بفضل تدفق الأموال من الخارج، كما قاد سلامة إعادة إعمار قلب العاصمة بيروت التي دمرتها 15 سنة من الحرب الأهلية، تحت قيادة معلمه رئيس الوزراء اللبناني السابق ورجل الأعمال رفيق الحريري، الذي اغتيل في الأيام الأخيرة من عهد سورية في لبنان.

الغد