الدولار العراقي والريال الإيراني وغثاء السيل

الدولار العراقي والريال الإيراني وغثاء السيل

آخر ما يحتاجه رجل الدولة أن يتصرف كما يتصرف غثاء البشر. المنصب له ثقله عادة. والمسؤوليات الحكومية تُلزم المسؤول أن يضبط لسانه، وأن يضبط تصرفاته قبل لسانه. أو – لكي أجعل الأمر مفهوما- أن “يثقل”، فإن لم يجد سبيلا من نفسه إلى ذلك، يضع حصوتين ثقيلتين في جيبه، قبل أن يتصرف في نطاق مسؤولياته.

ولقد ابتلي العراق، منذ الغزو الأميركي، بأن تحولت دولته إلى دولة غثاء، لا تقيم وزنا للتقاليد والأعراف والقواعد، دع عنك القوانين.

ولقد ظل الافتراض قائما، بأن “الوقت يُعلم مَنْ لا يتعلم”. سوى أن هذا الافتراض ثبت في العراق الجديد كباطل. لأن 18 عاما في السلطة لم تعلم أحدا شيئا في الواقع. حتى جاز فيهم القول “من شبّ على شيء، شاب عليه”. والحرامي يظل حرامي حتى ولو أعطيته مال قارون.

ولقد تصرفوا بأموال الدولة حتى ضاعت مئات المليارات من الدولارات واختفت من الحسابات. والسبب الوحيد لذلك، هو أنهم أولاد…. خلقة وأخلاقا. فإذا كنت تحسب أنهم يستاؤون من الانتقادات أو الفضائح أو انكشاف المستور أو حتى الشتائم، فأنت على خطأ. فأعمال النهب ظلت تمضي قُدما، برغم كل ذلك.

◙ 18 عاما في السلطة لم تسفر عن رجل دولة واحد. المحاصصة الطائفية التي سيطرت على مؤسسات الدولة لم تحولها إلى دولة فساد بمعاني النهب وحدها ولكن بمعاني الانحطاط الأخلاقي أيضا

لك أن تسأل، من هو ذلك الشخص الذي لا يخاف ولا يخجل من العار، ثم لا يتردد في الاستمرار به، برغم كل ما يقال عنه؟ وشفاعتي أن الأمر واضح أمام القارئ لأنه يعرف تماما من هم أولئك الذين يتصرفون بالمال العام في العراق، وكيف ينهبونه لكي يغذوا به خزائنهم الشخصية وخزائن وليهم الفقيه، بلا رأفة ولا شفقة.

وفضائح النهب على كل لسان منذ أن تولى “الحرامي الأكبر” السلطة إلى يومنا هذا. وهو لم يشعر بالخجل. ولا شعر الذين من حوله من عصائب الحرامية الآخرين أنهم عار على البلاد وعلى الناس أجمعين. علّمهم بول بريمر بعض فنون اللصوصية، بأن سطا على أموال البلاد فوزعها عليهم “عامي شامي”، ولكنهم الآن صاروا أساتذة إلى درجة أنهم يملكون بنوكا، ويتداولون بمئات الملايين من الدولارات يوميا، يساعدهم في ذلك مصرف مركزي هو وكر العصابة الرئيسي. يفتح لهم مغارة علي بابا، يسميها نافذة بيع العملات، ويدعو اللصوص أن انهبوا بلا حسيب ولا رقيب.

ولقد كان من مصلحة الولايات المتحدة أن يُقاد العراق بهذا النوع من درك البشر الأسفل، لأنها كانت تريد أن تحصل على حصتها من أعمال النهب. ولكن شاءت الأقدار أنها لم تعد على وفاق مع دولة الولي الفقيه. في البداية تقاسموا الحصص، على طريقة هذا لك، وذلك لي. ولكنهم اختلفوا فيما بعد. فوضعوا نظاما للرقابة على التحويلات من أجل تقييد وصول الأموال إلى إيران.

لاحظ، أنهم صمتوا على كل أعمال النهب لسنوات طويلة. ولكنهم تضايقوا عندما بدأت إيران تقصف معسكراتهم وتطالب برحيلهم ليس من العراق وحده وإنما من المنطقة بأسرها أيضا، حتى صارت تلاحقهم في شمال العراق وفي سوريا.

ولأجل الإنصاف، فان الولايات المتحدة هي التي، لأسبابها الخاصة، نقضت التوافقات، وليس الولي الفقيه. فحتى العام 2014 كانت “الأمور ماشية تمام” بين الطرفين. إيران حصلت على مئات المليارات من خلال مشاريع وهمية وتجارة مزيفة وعقود هوائية. وحصلت الشركات الأميركية على حصة مماثلة، بعضها من مبيعات خردة، وظلت الأموال تتطاير بين إيران والدول الغربية، حتى أدرك الإفلاسُ البلاد. وكأن نظام سويفت لم يكن موجودا في ذلك الوقت!

منذ تلك الساعة التي نشأ فيها الشرخ بين الطرفين، بدأ الريال الإيراني ينهار. كان ريالا ممولا في الواقع من أعمال اللصوصية التي يمارسها الميليشياويون في العراق. ولا يحتاج أحد إلى عبقرية ليرى كيف أن أعمال الرقابة التي بدأ يفرضها “الاحتياطي الفيدرالي” على التحويلات النقدية، انعكست سلبا على الريال الإيراني حتى بلغت قيمة الدولار الواحد نصف مليون ريال، خلال هذه الأيام.

كما لا يحتاج أحد إلى عبقرية ليرى أن مُسيرات إيران التي ذهبت لتحارب إلى جانب روسيا في أوكرانيا هي السبب، وليس مجرد البغضاء التي نشأت بين الاحتياطي الفيدرالي والريال الإيراني بعد مقتل قاسم سليماني وبعد المطاردة الإيرانية للوجود الأميركي في العراق.

عاد نوري المالكي إلى السلطة من وراء ستار شفاف، وأراد أن يرد الاعتبار لاتفاقية تقاسم الحصص التي وقعتها إيران مع الولايات المتحدة عام 2008، والتي يسميها الأميركيون “اتفاقية الإطار الإستراتيجي”. وذهب وزير خارجية حكومة الإطار التنسيقي فؤاد حسين، إلى واشنطن ليقنع “نظراءه” بأن يتم منح مغارة علي بابا مدة من الزمن لكي تتعود على القواعد الجديدة التي يفرضها نظام سويفت لمراقبة التحويلات. ولم يكن بحاجة إلى الكثير من الجهد. كان بوسعه أن يكتفي بالقول لنظرائه “نحن دفناه سوا”، ليقتنعوا بأن بضعة أشهر إضافية للتعود لن تفسد للود قضية.

◙ فضائح النهب على كل لسان منذ أن تولى “الحرامي الأكبر” السلطة إلى يومنا هذا. وهو لم يشعر بالخجل. ولا شعر الذين من حوله من عصائب الحرامية الآخرين أنهم عار على البلاد وعلى الناس أجمعين

والتعود، إنما يعني تدبير وسائل نهب شرعية جديدة. أي أن تبدأ مصارف الميليشيات مشاريع إنمائية يتم النهب من خلالها بالوهم والزيف، بدلا من الأساليب السوقية السائدة الآن عن طريق أعمال التهريب وتبييض الأموال وإنشاء مكاتب تحويلات في دول الجوار لكي تتولى نقل الأموال إلى الحرس الثوري الإيراني، على طريقة “سَلّم بَلّم”. فهذا هو نظام سويفت الميليشياوي العراقي – الإيراني.

والمسألة هي مسألة تبديل وسائل بأخرى. ذلك أن علاقة غثاء السيل بالمال العام، ما تزال علاقة همجية. وهم بحاجة إلى دورة تدريبية لكي يفهموا كيف يعمل نظام سويفت ليس من أجل أن يتبعوا قواعده، وإنما من أجل اختراقه بأساليبهم الخاصة. وذلك حتى ينضب الاحتياطي النقدي الراهن.

18 عاما في السلطة، لم تسفر عن رجل دولة واحد. المحاصصة الطائفية التي سيطرت على مؤسسات الدولة لم تحولها إلى دولة فساد، بمعاني النهب وحدها، ولكن بمعاني الانحطاط الأخلاقي أيضا.

بعض الافتراض كان يقول إن العراق دولة حضارة وتاريخ ووزن سياسي واقتصادي إقليمي، يفرض الاحترام والهيبة. ولو أنك وضعت على رأسها أجهل جاهل، فإنه بمرور الوقت، سوف يُصبح رجل دولة، يتقي الله والمعايير في بلده.

ولقد ثبت أن هذا الافتراض زائف. كان مجرد وهم توهمناه نحن الذين يعتقدون أن العراق لا يمكن، بسبب طبيعته وقدراته وميراث الحضارات فيه، أن يتحول إلى مستنقع فساد وانحطاط شامل.

هذا العراق، درسٌ وشاهد. وهو يفيد بأن غثاء السيل لا يجتمع على بلد حتى يسحقه.

العرب