وصفت صحيفة “نيويورك تايمز تفجير خط أنابيب “نورد ستريم” بأنه “لغز غامض”، لكن الولايات المتحدة نفذت عملية بحرية سرية، تم الإبقاء عليها سرية -حتى الآن.
* * *
يمكن العثور على “مركز الغوص والإنقاذ” التابع للبحرية الأميركية في موقع غامض مثل اسمه -أسفل ما كان في السابق طريقًا زراعيًا في ريف “بنما سيتي”، وهي مدينة منتجع مزدهرة الآن في جنوب غرب فلوريدا، على بعد 70 ميلاً إلى الجنوب من حدود ألاباما. والمجمع الذي يضم المركز عسير الوصف مثلما هو موقعه -هيكل خرساني باهت من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يشبه مدرسة ثانوية مهنية في الجانب الغربي من شيكاغو. وثمة مغسلة للخدمة الذاتية تعمل بقطع النقود المعدنية ومدرسة للرقص يقعان عبر ما أصبح الآن طريقًا واسعًا من أربعة مسارب.
يقوم المركز بتدريب غواصين ذوي مهارات عالية في المياه العميقة منذ عقود، والذين يكونون قادرين، بمجرد تعيينهم في الوحدات العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم، على الغوص التقني، سواء لعمل الخير -استخدام متفجرات C4 لتطهير الموانئ والشواطئ من الحطام والذخائر غير المنفجرة (1)- أو الشر، مثل تفجير منصات النفط الأجنبية، وتلويث صمامات السحب لمحطات الطاقة تحت سطح البحر، وتدمير الأقفال على قنوات الشحن البحري الحيوية. وكان المركز في بنما سيتي، الذي يضم ثاني أكبر مسبح داخلي في أميركا، هو المكان المثالي لتجنيد أفضل خريجي مدرسة الغوص وأكثرهم تكتمًا الذين أنجزوا -بنجاح- في الصيف الماضي ما أوكل إليهم القيام به على عمق 260 قدمًا تحت سطح بحر البلطيق.
في حزيران (يونيو) الماضي، قام غواصو البحرية، الذين يعملون تحت غطاء مناورة “الناتو” التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة في منتصف الصيف، والمعروفة باسم “عمليات البلطيق 22″، BALTOPS 22، بزرع متفجرات يتم تفجيرها عن بعد، والتي دمرت بعد ثلاثة أشهر ثلاثة من خطوط أنابيب “نورد ستريم” الأربعة، وفقًا لمصدر لديه معرفة مباشرة بالتخطيط العملياتي.
كان اثنان من خطوط الأنابيب التي كانت تعرف مجتمعة باسم “نورد ستريم 1″، يزودان ألمانيا والكثير من أوروبا الغربية بالغاز الطبيعي الروسي الرخيص لأكثر من عقد من الزمان. وتم بناء زوج ثان من خطوط الأنابيب، يسمى “نورد ستريم 2″، ولكن لم يتم تشغيله بعد. والآن، مع احتشاد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، وبينما يلوح في الأفق طيف حرب هي الأكثر دموية في أوروبا منذ العام 1945، رأى الرئيس جوزيف بايدن في خطوط الأنابيب وسيلة يستخدمها فلاديمير بوتين لتسليح الغاز الطبيعي لخدمة طموحاته السياسية والإقليمية.
لدى طلب تعليق منه، قال أدريان واتسون، وهو متحدث باسم البيت الأبيض، في رسالة بالبريد الإلكتروني: “هذا كاذب وخيال كامل”. وكتب تامي ثورب، المتحدث باسم وكالة الاستخبارات المركزية، بالمثل: “هذا الادعاء كاذب تمامًا وبالمطلق”.
جاء قرار بايدن بتخريب خطوط الأنابيب بعد أكثر من تسعة أشهر من النقاش السري للغاية داخل مجتمع الأمن القومي في واشنطن حول أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف. وفي معظم ذلك الوقت، لم تكن القضية هي ما إذا كان يجب القيام بالمهمة، وإنما كيف يمكن تنفيذها من دون ترك أي دليل ظاهر يشير إلى المسؤول.
كان هناك سبب بيروقراطي حاسم للاعتماد على خريجي مدرسة الغوص الصارمة في “بنما سيتي”. كان الغواصون من البحرية فقط، وليسوا أعضاء في “قيادة العمليات الخاصة الأميركية” التي يجب إبلاغ الكونغرس بعملياتها السرية وأن يتم تقديم إحاطة عنها مسبقًا إلى قيادة مجلس الشيوخ ومجلس النواب -ما تسمى بـ”عصابة الثمانية”. كانت إدارة بايدن تبذل كل ما في وسعها لتجنب التسريبات بينما يتم التخطيط للعملية في أواخر العام 2021 والأشهر الأولى من العام 2022.
كان الرئيس بايدن وفريقه للسياسة الخارجية -مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الخارجية توني بلينكن، ووكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند- صريحين وثابتين في عدائهم لخطيّ الأنابيب اللذين كانا يسيران جنبًا إلى جنب لمسافة 750 ميلاً تحت بحر البلطيق من ميناءين مختلفين في شمال شرق روسيا بالقرب من الحدود الإستونية، ويمران بالقرب من جزيرة بورنهولم الدنماركية قبل أن ينتهي بهما المطاف إلى شمال ألمانيا.
كان الطريق المباشر، الذي تجاوز أي حاجة لعبور أوكرانيا، نعمة للاقتصاد الألماني الذي تمتع بوفرة من الغاز الطبيعي الروسي الرخيص -ما يكفي منه لتشغيل مصانعه وتدفئة منازله، مع تمكين الموزعين الألمان من بيع الغاز الزائد، بربح، في جميع أنحاء أوروبا الغربية. وسيكون من شأن إجراءات يمكن تعقبها إلى الإدارة الأميركية أن تنتهك وعود الولايات المتحدة بتقليل الصراع المباشر مع روسيا إلى أدنى حد. كانت السرية ضرورية.
منذ أيامه الأولى، كانت واشنطن وشركاؤها المناهضون لروسيا في “الناتو” ينظرون إلى خط “نورد ستريم 1” على أنه يشكل تهديدًا للهيمنة الغربية. وقد تأسست الشركة القابضة التي تقف وراءه، “نورد ستريم إيه جي”، في سويسرا في العام 2005 بالشراكة مع “غازبروم”، وهي شركة روسية مطروحة للتداول العام تحقق أرباحًا هائلة للمساهمين وتهيمن عليها الأوليغارشية المعروفة بأنها في نطاق سيطرة بوتين. وسيطرت “غازبروم” على 51 في المائة من الشركة، بينما تتقاسم أربع شركات طاقة أوروبية -واحدة في فرنسا، وواحدة في هولندا، واثنتان في ألمانيا- الـ49 في المائة المتبقية من الأسهم، ولها الحق في السيطرة على مبيعات المصب للغاز الطبيعي غير المكلف للموزعين المحليين في ألمانيا وأوروبا الغربية. ويتم تقاسم أرباح “غازبروم” مع الحكومة الروسية، وقُدرت العائدات الحكومية من الغاز والنفط في بعض السنوات بما يصل إلى 45 في المائة من الميزانية السنوية لروسيا.
كانت المخاوف السياسية الأميركية حقيقية: سوف يكون لدى بوتين الآن مصدر دخل رئيسي إضافي تشتد الحاجة إليه، وستصبح ألمانيا وبقية أوروبا الغربية مدمنة على الغاز الطبيعي منخفض التكلفة الذي توفره روسيا في حين يقلل ذلك الاعتماد الأوروبي على أميركا. في الواقع، كان هذا بالضبط هو ما حدث. رأى العديد من الألمان “نورد ستريم 1” كجزء من تحقق نظرية Ostpolitik (2) الشهيرة للمستشار الألماني الأسبق فيلي براندت، الذي من شأنه أن يمكّن ألمانيا ما بعد الحرب من إعادة تأهيل نفسها والدول الأوروبية الأخرى التي دُمرت في الحرب العالمية الثانية من خلال، من بين مبادرات أخرى، استخدام الغاز الروسي الرخيص لتغذية سوق أوروبا الغربية والاقتصاد التجاري المزدهرَين.
كان “نورد ستريم 1” خطيرًا بما فيه الكفاية، من وجهة نظر “الناتو” وواشنطن، لكن “نورد ستريم 2″، الذي اكتمل بناؤه في أيلول (سبتمبر) من العام 2021، سيضاعف، إذا وافق عليه المنظمون الألمان، كمية الغاز الرخيص التي ستكون متاحة لألمانيا وأوروبا الغربية. كما سيوفر خط الأنابيب الثاني ما يكفي من الغاز لتغطية أكثر من 50 في المائة من الاستهلاك السنوي لألمانيا. وكانت التوترات تتصاعد باستمرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، مدعومة بالسياسة الخارجية العدوانية التي انتهجتها إدارة بايدن.
اندلعت المعارضة لخط “نورد ستريم 2” عشية تنصيب بايدن في كانون الثاني (يناير) 2021، عندما أثار الجمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة تيد كروز عن ولاية تكساس، مرارًا وتكرارًا التهديد السياسي الذي يشكله الغاز الطبيعي الروسي الرخيص خلال جلسة تأكيد تعيين بلينكن كوزير للخارجية. وبحلول ذلك الوقت، كان مجلس الشيوخ الموحد قد أقر بنجاح قانونًا، كما قال كروز لبلينكن، “أوقفَ (خط الأنابيب) في مكانه”. وسيكون هناك ضغط سياسي واقتصادي هائل من الحكومة الألمانية التي كانت ترأسها آنذاك المستشارة أنجيلا ميركل، لتشغيل خط الأنابيب الثاني.
هل سيقف بايدن في وجه الألمان؟ قال بلينكن نعم، لكنه أضاف أنه لم يناقش تفاصيل وجهات نظر الرئيس القادم. وقال: “أعرف قناعته القوية بأن هذه فكرة سيئة، أعني ’نورد ستريم 2‘. أعلم أن الأمر سيتطلب منا استخدام كل أداة إقناع لدينا لإقناع أصدقائنا وشركائنا، بما في ذلك ألمانيا، بعدم المضي قدمًا في إنشائه”.
وبعد بضعة أشهر، مع اقتراب الانتهاء من بناء خط الأنابيب الثاني، رمَش بايدن. في شهر أيار (مايو) من ذلك العام، وفي تحول مذهل، تنازلت الإدارة عن العقوبات المفروضة على شركة “نورد ستريم إيه جي”، حيث أقر مسؤول في وزارة الخارجية بأن محاولة وقف خط الأنابيب من خلال العقوبات والدبلوماسية “دائمًا يكون من غير المرجح أن تنجح”. ووراء الكواليس، ورد أن مسؤولي الإدارة حثوا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان يواجه في ذلك الوقت تهديدًا بالغزو الروسي، على عدم انتقاد هذه الخطوة.
وكانت هناك تداعيات فورية. أعلن الجمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة كروز، إيقافًا فوريًا لجميع مرشحي السياسة الخارجية لبايدن وأخروا تمرير مشروع قانون الدفاع السنوي لعدة أشهر، ودخل عميقًا في الخريف. ووصفت مجلة “بوليتيكو” في وقت لاحق تحول بايدن بشأن خط الأنابيب الروسي الثاني بأنه “القرار الوحيد، الذي يمكن القول إنه وضع أجندة بايدن تحت الخطر، أكثر حتى من الانسحاب العسكري الفوضوي من أفغانستان”.
كانت الإدارة تتخبط، على الرغم من الحصول على مهلة للتعامل مع الأزمة في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما علق منظمو الطاقة في ألمانيا الموافقة على تشغيل خط أنابيب “نورد ستريم 2”. وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 8 % في غضون أيام، وسط مخاوف متزايدة في ألمانيا وأوروبا من أن يؤدي تعليق تشغيل خط الأنابيب والاحتمال المتزايد لاندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا إلى شتاء بارد غير مرغوب فيه على الإطلاق. ولم يتضح لواشنطن أين يقف أولاف شولتس، المستشار الألماني المعين حديثًا. وقبل ذلك بأشهر، بعد سقوط أفغانستان، كان شولتس قد أيد علنًا دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتهاج سياسة خارجية أوروبية أكثر استقلالية في خطاب ألقاه في براغ -فيما أشار بوضوح إلى تقليل الاعتماد على واشنطن وأفعالها الزئبقية المتقلبة.
خلال كل هذا، كانت القوات الروسية تحتشد بشكل مطرد ومشؤوم على حدود أوكرانيا، وبحلول نهاية كانون الثاني (ديسمبر)، كان أكثر من 100.000 جندي روس في وضع يسمح لهم بالهجوم من بيلاروسيا وشبه جزيرة القرم. كان القلق يتزايد في واشنطن، بما في ذلك تقييم صدر عن بلينكن بأن هذه الأعداد من القوات يمكن أن “تتضاعف في وقت قصير”.
أصبح اهتمام الإدارة مركزًا مرة أخرى على “نورد ستريم”. فطالما ظلت أوروبا تعتمد على خطوط الأنابيب للحصول على الغاز الطبيعي الرخيص، كانت واشنطن تخشى أن تكون دول مثل ألمانيا مترددة في تزويد أوكرانيا بالأموال والأسلحة التي تحتاجها لإلحاق الهزيمة بروسيا.
وكان في تلك اللحظة غير المستقرة حين أذن بايدن لجيك سوليفان بتجميع مجموعة مشتركة من الوكالات الأمنية الأميركية للتوصل إلى خطة. وكان من المقرر أن تكون جميع الخيارات مطروحة على الطاولة. لكن واحدًا منها فقط هو الذي سيظهر.
التخطيط
في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2021، قبل شهرين من اندفاع الدبابات الروسية الأولى داخل الأراضي الأوكرانية، عقد جيك سوليفان اجتماعًا لفرقة عمل مشكلة حديثًا -رجال ونساء من هيئة الأركان المشتركة، ووكالة المخابرات المركزية، ووزارتي الخارجية والخزانة- وطلب توصيات حول كيفية الرد على غزو بوتين الوشيك.
وسيكون هذا الاجتماع هو الأول في سلسلة من الاجتماعات السرية للغاية التي عُقدت في غرفة آمنة في الطابق العلوي من “مبنى المكتب التنفيذي القديم”، المجاور للبيت الأبيض، الذي كان أيضًا مقر “المجلس الاستشاري للاستخبارات الخارجية” التابع للرئيس. وكانت هناك الثرثرة المعتادة والكر والفر التي أدت في النهاية إلى طرح سؤال أولي حاسم: هل ستكون التوصية التي أحالتها المجموعة إلى الرئيس قابلة للتراجع عنها -مثل إضافة طبقة أخرى من العقوبات والقيود على العملة- أم أنها ستكون عملية لا رجعة فيها -أي إجراءات ناشطة حركية، من التوع الذي لا يمكن نقضه أو التراجع عنه؟
كان ما أصبح واضحًا للمشاركين، وفقًا للمصدر الذي لديه معرفة مباشرة بالعملية، هو أن سوليفان ينوي أن تضع المجموعة خطة لتدمير خطي أنابيب “نورد ستريم” -وأنه يحقق بذلك رغبات الرئيس.
خلال الاجتماعات العديدة التالية، ناقش المشاركون خيارات الهجوم. واقترحت البحرية استخدام غواصة حديثة التحقت بالخدمة للتو لمهاجمة خط الأنابيب مباشرة. وناقش سلاح الجو خيار إسقاط قنابل ذات صمامات تفجير قابلة للتوقيت المتأخر ويمكن تفجيرها عن بعد. وجادلت وكالة المخابرات المركزية بأنه مهمًا كان ما يتم القيام به، فإنه يجب أن يكون سريًا. كان جميع المعنيين يعون المخاطر. وكما قال المصدر: “لم تكن هذه لعبة أطفال”. إذا كان الهجوم من النوع الذي يمكن تعقبه إلى الولايات المتحدة، “فإنه عمل من أعمال الحرب”.
في ذلك الوقت، كان يقود وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز، السفير السابق الهادئ في روسيا، والذي شغل منصب نائب وزير الخارجية في إدارة باراك أوباما. وسرعان ما أوكل بيرنز المهمة إلى مجموعة عمل تابعة للوكالة كان من بين أعضائها المخصصين -بالصدفة- شخص على دراية بقدرات الغواصين في أعماق البحار التابعين لقوات البحرية في بنما سيتي. وخلال الأسابيع القليلة التالية، بدأ أعضاء مجموعة عمل وكالة المخابرات المركزية في حياكة خطة لعملية سرية تستخدم الغواصين في أعماق البحار، والتي تهدف إلى إحداث انفجار على طول خط الأنابيب.
وكان قد تم القيام بشيء من هذا القبيل من قبل. في العام 1971، علم مجتمع الاستخبارات الأميركي من مصادر لم يتم الكشف عنها بعد أن وحدتين مهمتين من البحرية الروسية كانتا تتواصلان عبر كابل تحت البحر مدفون في بحر أوخوتسك، على ساحل الشرق الأقصى لروسيا. وكان الكابل يربط نقطة قيادة بحرية إقليمية بمقر البر الرئيسي في فلاديفوستوك.
وعلى الأثر، تم تجميع فريق منتقى بعناية من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي في مكان ما في منطقة واشنطن، تحت غطاء عميق من السرية، ووضعوا خطة نجحت، باستخدام غواصين من البحرية وغواصات معدلة ومركبة إنقاذ غواصة عميقة، بعد الكثير من التجربة والخطأ، في تحديد موقع الكابل الروسي. وزرع الغواصون جهاز استماع متطور على الكابل، اعترض بنجاح المحادثات الروسية المارة وقام بحفظها على نظام تسجيل.
علمت وكالة الأمن القومي أن كبار ضباط البحرية الروسية، مقتنعين بأمن رابط اتصالهم، تحدثوا مع أقرانهم من دون تشفير. وكان لا بد من استبدال جهاز التسجيل وشريطه شهريًا واستمرت متابعة المشروع بمرح لمدة عقد من الزمان حتى قام باختراقه فني مدني في وكالة الأمن القومي يبلغ من العمر أربعة وأربعين عامًا يدعى رونالد بيلتون كان يجيد اللغة الروسية. وكان بيلتون قد تعرض للخيانة من منشق روسي في العام 1985 وحُكم عليه بالسجن. وحصل على خمسة آلاف دولار فقط من الروس مقابل ما كشفه عن العملية، إلى جانب 35.000 دولار أخرى مقابل بيانات العمليات الروسية الأخرى التي قدمها والتي لم يتم الإعلان عنها مطلقًا.
كان ذلك النجاح تحت الماء، الذي أُطلق عليه اسم “عملية آيفي بيلز” Ivy Bells، مبتكرًا ومحفوفًا بالمخاطر، وأنتج معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن حول نوايا البحرية الروسية وتخطيطها.
ومع ذلك، كانت المجموعة المشتركة بين الوكالات في البداية متشككة بشأن حماس وكالة المخابرات المركزية لتنفيذ هجوم سري جديد في أعماق البحار. كان ثمة الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها. كانت البحرية الروسية تقوم بدوريات مكثفة في مياه بحر البلطيق، ولم تكن هناك منصات نفط يمكن استخدامها كغطاء لعملية الغوص. هل سيتعين على الغواصين الذهاب إلى إستونيا، عبر الحدود مباشرة من أرصفة تحميل الغاز الطبيعي الروسية، للتدرب على المهمة؟ قيل للوكالة: “سوف يكون ذلك شيئًا لن ينتهي إلى خير”.
وقال المصدر أنه خلال “كل هذه العملية من إعداد المكائد، كان بعض العاملين في وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية يقولون: ’لا تفعلوا هذا. إنه غبي وسيكون كابوسًا سياسيًا إذا افتُضح أمره‘”.
ومع ذلك، في أوائل العام 2022، أبلغت مجموعة عمل وكالة المخابرات المركزية مجموعة سوليفان المشتركة بين الوكالات بما يلي: “لدينا طريقة لتفجير خطوط الأنابيب”.
ما حدث بعد ذلك كان مذهلاً. في 7 شباط (فبراير)، قبل أقل من ثلاثة أسابيع من الغزو الروسي الذي بدا حتميًا لأوكرانيا، التقى بايدن في مكتبه بالبيت الأبيض بالمستشار الألماني أولاف شولتس، الذي أصبح الآن، بعد بعض التذبذب، يقف بقوة في الفريق الأميركي. وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب ذلك، قال بايدن بتحد: “إذا غزت روسيا… لن يكون هناك نورد ستريم 2 بعد الآن. سوف نضع نهاية له”.
وقبل ذلك بعشرين يومًا، كانت وكيلة الوزارة، نولاند، قد أوصلت الرسالة نفسها بشكل أساسي في مؤتمر صحفي لوزارة الخارجية بتغطية صحفية قليلة. وقالت ردًا على سؤال: “أريد أن أكون واضحة جدًا معكم اليوم. إذا غزت روسيا أوكرانيا، بطريقة أو بأخرى لن يمضي نورد ستريم 2 قدُمًا”.
وأعرب العديد من أولئك المشاركين في التخطيط لمهمة خط الأنابيب عن استيائهم مما اعتبروه إشارات غير مباشرة إلى الهجوم.
وقال المصدر: “كان الأمر أشبه بوضع قنبلة ذرية على الأرض في طوكيو وإخبار اليابانيين بأننا سنقوم بتفجيرها. كانت الخطة هي تنفيذ الخيارات بعد الغزو وعدم الإعلان عنها على الملأ. لم يفهم بايدن ذلك ببساطة، أو أنه تجاهله”.
ربما كان طيش بايدن ونولاند، إذا كان هذا حاله، قد أحبط بعض المخططين. لكنه خلق أيضًا فرصة. وفقًا للمصدر، قرر بعض كبار المسؤولين في وكالة المخابرات المركزية أن تفجير خط الأنابيب “لم يعد من الممكن اعتباره خيارًا سريًا لأن الرئيس أعلن للتو أننا نعرف كيف نفعل ذلك”.
وهكذا، تم تغيير رتبة خطة تفجير “نورد ستريم 1 و2” فجأة من عملية سرية تتطلب إبلاغ الكونغرس عنها، إلى واحدة اعتبرت عملية استخباراتية سرية للغاية بدعم عسكري أميركي. وأوضح المصدر أنه بموجب القانون، “لم يعد هناك شرط قانوني يقضي بإبلاغ الكونغرس بالعملية. كل ما كان عليهم فعله الآن هو التنفيذ -ولكن ما يزال يتعين أن يكون ما يفعلونه سريًا. الروس لديهم مراقبة فائقة لبحر البلطيق”.
لم يكن لدى أعضاء مجموعة عمل الوكالة أي اتصال مباشر مع البيت الأبيض، وكانوا حريصين على معرفة ما إذا كان الرئيس يعني ما قاله -أي ما إذا كان هناك إذن بتنفيذ المهمة الآن. ويتذكر المصدر: “ويعود بيل بيرنز ويقول: ’افعلوها‘”.
الغد