ما دلالات رحلة الساعات الست لبايدن إلى كييف؟

ما دلالات رحلة الساعات الست لبايدن إلى كييف؟

ست ساعات فقط استغرقت الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى العاصمة الأوكرانية كييف. ويبدو أنه أرادها أن تكون على غرار استعراض العضلات في مشهد الكاوبوي الأمريكي، لذلك أبلغت واشنطن موسكو بالزيارة السرية قبل حصولها، كي يكتمل المشهد في مواجهة البطلين وجها لوجه. ما الأهداف من هذه الزيارة، وما الغايات، وما الرسائل؟ كلها أسئلة انشغل العالم بها، لأن مصير البشرية مرهون بيد هذين البطلين، فهل أصبح العالم على شفا الهاوية؟ أم أن الحل بات قريبا؟
لقد حج الكثير من زعماء وقادة أوروبا إلى أوكرانيا من قبل، وكانت اللغة المشتركة للجميع تصب في خانة العداء لروسيا، والدعم المطلق لكييف في الحرب مع موسكو. لكن زيارة بايدن مختلفة بعض الشيء عن زيارات الآخرين، فهو من يقود الحشد ضد روسيا، ويقدم المساعدات السخية، وهو من يدفع الآخرين لتقديم الدعم ومواصلة المشوار، لذلك زيارته إلى كييف المتزامنة مع الذكرى السنوية الأولى للحرب، لا بد من أن تكون محمّلة برسائل ذات مضامين مهمة. قد تكون الزيارة تاريخية في نظر الرئيس الأوكراني، ومن حقه أن يقول (إنها أهم زيارة في تاريخ العلاقات الأمريكية ـ الأوكرانية، وتؤكد النتائج التي حققناها بالفعل)، لكنها بالنسبة لبايدن شيء آخر.. إنها سوط بيده يسوق به كل زعماء أوروبا، لتقديم المزيد من الدعم والإسناد لأوكرانيا، وتعزيز سلطة الولايات المتحدة على القرار الأوروبي، في ظل العجز الدائم لهذه الدول من توفير الحماية لنفسها، والانعتاق من منظومة الحماية الأمريكية وأثمانها. وإذا كان البعض يرى أهمية في إعلان بايدن عن تقديم مساعدة إضافية بقيمة نصف مليار دولار لأوكرانيا، خلال هذه الزيارة، وتوفير ذخائر لأنظمة هايمارس والمزيد من صواريخ جافلن المضادة للدبابات، فإن الأهمية الحقيقية ليست في هذا المجال، حتى إن بايدن لم يكن أصلا بحاجة ليعلن ذلك، لأن الولايات المتحدة هي أهم من يقدم المساعدات العسكرية لكييف. كما أن ما أعلنه هو تكرار للأسلحة نفسها، التي قالوا إنهم سيرسلونها.. إذن ما هي أهداف الزيارة؟
إن عين بايدن في مكان آخر تماما. فالرجل يريد الاستثمار في الملف الأوكراني في اتجاهات الداخل والخارج.. في الداخل الأمريكي هنالك بعض المتغيرات، حيث بات مسموعا الكثير من الأسئلة التي يطرحها بعض أعضاء الكونغرس حول الحساب المفتوح لأوكرانيا ومدياته، وكذلك حول نتائج المعارك الدائرة على الأرض فيها. وهنا هو يريد أن يبعث إليهم برسالة تقول إنه مستمر في دعم الحرب، وإن الصراع القائم هو بين الديمقراطية والاستبداد، لذلك قال في خطابه في كييف (الحرية لا تقدّر بثمن. إنها تستحق القتال من أجلها مهما طال الزمن). بالتالي عليهم دعمه لأن الديمقراطية هي أهم مبادئ الولايات المتحدة. كما أنه لا بد من أن يستثمر فيها من أجل الولاية الثانية، واستمراريتها توفر له الدعم في الحملة الانتخابية، خاصة أن إدارته أصبحت مرتبطة بهذه الحرب. أما على الصعيد الخارجي فإن أهم رسائل الزيارة موجهة إلى موسكو وبكين. الرسالة إلى موسكو تقول إن واشنطن ترمي بكل ثقلها وراء كييف، ولا قبول بمسألة تكريس الأمر الواقع وضم أجزاء من أوكرانيا إلى روسيا، وأننا مستعدون للمضي إلى أبعد وقت ممكن في حرب استنزاف، ولا تفاوض دون ذلك غدا أو بعد غد. وعليك يا بوتين أن تتذكر أنه قبل عام كانت طائراتك تقصف في أوكرانيا، ودباباتك تحيط بالعاصمة كييف، واليوم وبعد عام نحن هنا حاضرون ومستمرون في دعم كييف.

المواطن الغربي بات يعتقد أن العقوبات الغربية القاسية وغير المسبوقة على روسيا لم تحقق أهدافها، وأن روسيا لم تستسلم، بل إنها حققت تقدما على الأرض

أما الرسالة الأخرى فكانت في الكواليس وهي تعبير عن مخاوف أمريكية من التحركات الصينية ودخولها على خط الأزمة، لذلك أبلغ وزير الخارجية الأمريكية مسؤولا صينيا كبيرا، أن واشنطن لديها معلومات عن نية بكين إرسال أسلحة وذخائر إلى موسكو، وتنظر واشنطن إلى هذا الأمر على أنه على جانب كبير من الخطورة، لأنه يعني إطالة أمد الحرب، وفي ذلك استنزاف لموارد حلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية. كما أنه سيعني استمرار الحرب لما بعد الانتخابات الأمريكية التي ستجري في نوفمبر من العام المقبل، بالتالي هناك احتمال أن يصل رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض غير متحمس لتقديم الدعم لهذه الحرب، وهذا ستكون له تداعيات كبيرة على سير الدعم الأمريكي، الذي هو العمود الفقري للأوكرانيين على المستوى الدولي. هذا من الناحية العملاتية، لكن على الناحية الاستراتيجية هناك شعور أمريكي بأن الأمور تتغير على مستوى العالم، فإن صدقت هذه المعلومات الأمريكية عن نية الصين، فإن هذا يعني أن هناك نوعا من الحلف الذي سيتشكل من روسيا – الصين – وكوريا الشمالية وربما دول أخرى. بالتالي يظهر على البعد الاستراتيجي الأوسع أن هناك تحالفين يقتربان من المواجهة، ليس بالكلام فقط والعقوبات الاقتصادية، بل بالقوة العسكرية أيضا.
ربما رسالة بايدن الأخرى التي بعثها من خلال الزيارة كانت إلى الرأي العام الغربي، فقد أظهر استطلاع في صحيفة «لفيغارو» الفرنسية مؤخرا عن انقسام داخل الرأي العام الأوروبي، حول إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، في ظل المخاوف من أن تتسع رقعة النزاع إلى حرب عالمية ثالثة، في ظل اقتصاد متعب، وتضخم، وأزمة طاقة. كما أن المواطن الغربي بات يعتقد أن العقوبات الغربية القاسية وغير المسبوقة على روسيا لم تحقق أهدافها، وأن روسيا لم تستسلم، بل إنها حققت تقدما على الأرض. أيضا بات من المُلاحظ أن الغرب قد استنفدت قدراته العسكرية، فقد سمع المواطن الغربي أنه سيتم أرسال العديد من الدبابات إلى أوكرانيا، لكن لم يحصل من ذلك إلا الشيء القليل. كل هذه المؤشرات تشكل عبئا على أجندة الرئيس الأمريكي ويصبح مضطرا لتوجيه رسائل تدعم توجهاته.
بشكل عام لم تعر موسكو أهمية لهذه الزيارة، لأنهم يدركون تماما نهج إدارة بايدن، هم يعتقدون أن الزيارة إلى كييف هي للدعاية بأن بايدن قوي ولا يخاف ويقود المعسكر الغربي ضد بوتين، وأن بايدن يسعى من وراء الدعم العسكري لأوكرانيا إلى تحقيق الأخيرة تقدما على الأرض، وبذلك يوفر هذا التقدم موقعا أفضل للأوكرانيين، ومن ورائهم الغرب في حالة التفاوض مع روسيا. كما أن القناعة باتت راسخة بالنسبة للروس وللعالم أيضا من أن هذه الحرب هي حرب بالوكالة بين أمريكا وحلفائها من جهة وروسيا من جهة أخرى، وأن أوكرانيا ما هي إلا ميدان لها، لذلك رأى العالم كيف أنه عندما دخلت تركيا على خط الأزمة وحاولت الجمع بين الطرفين للتفاوض، هرعت بريطانيا بقيادة بوريس جونسون رئيس الوزراء الاسبق إلى كييف لوقف تلك المفاوضات.

القدس العربي