قبل الزلزال الذي حصل في 6 فبراير/ آذار الماضي، توقف اهتمام العالم بالمأساة السورية إلى حد كبير، فقد طالت الأزمة وتشعّبت، وجرى ترسيم حدود مناطق الصراع بشكل شبه نهائي. تشابكت المصالح الإقليمية والدولية، وبات الوضع مزمنًا حتى وصل إلى درجة الاعتياد، ووجد السوريون أنفسهم في مستنقعٍ راكدٍ آسن، نظامًا ومعارضةً وشعبًا. فاقمت مضاعفات جائحة كورونا الأمر، وفعلت ذلك أيضًا الحرب الروسية على أوكرانيا، فأصبح الجميع ينتظرون زلزالًا سياسيًا يمكنه قلب موازين القوى المستقرّة وفكّ حالة الاستعصاء. ولكنّ الزلزال أتي طبيعيًا، ربّما لينقذ بشّار الأسد، وربّما لينقذ البلاد منه. لا أحد يعرف على وجه الدقّة ما الذي ستؤول إليه الأمور في مقبل الأيام، فقد يكون الزلزال، على بشاعته وفداحة ما خلّفه من كارثة، مدخلًا إلى الحل السياسي، أو على الأقلّ لتعديل المواقف وتغيير المقاربات. ولا يُشترط أن يكون ذلك بالضرورة انتصارًا لمطالب الشعب السوري المشروعة، بعد أن صار عبرة لغيره من شعوب المنطقة.
اتصل عدة قادة عرب ببشّار الأسد لتعزيته بضحايا الزلزال، منهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك البحرين حمد بن عيسى. ورفع الرئيس التونسي، قيس سعيّد، مستوى التمثيل الدبلوماسي لبلاده في سورية، وزار وفد وزاري لبناني دمشق بتكليف من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. وزار وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، دمشق أيضًا، والتقى الأسد، ونصحه باستثمار هذه السانحة وإبداء بعض المرونة والتعامل الإيجابي في مسألة فتح المعابر مع تركيا (يا لها من مفارقة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، أن يوجد رئيسٌ في العالم يحتاج ليفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية القادمة لشعبه إلى إقناعٍ من دولة أجنبية!). وتتالت مع الأيام التصريحات العربية والأجنبية، وكان أبرز المواقف ما فُهم من كلام وزير الخارجية السعودي، فرحان بن صالح، في مؤتمر الأمن في ميونخ، على أنّه تبدّل في الموقف العربي عامة والسعودي خاصّة. لقد أفصح الوزير عن وجود إجماع عربي بعدم جدوى عزل سورية. وزار وفدٌ من البرلمانيين العرب دمشق، وفعل ذلك أيضًا وزير الخارجية المصري، سامح شكري، واستقبلهم جميعًا بشار الأسد الذي كان قد طار إلى مسقط، واستُقبل لأول مرّة على البساط الأحمر منذ اندلاع الثورة ضدّه، ولهذا دلالاته المهمة في العلاقات الدولية. بل قد يرى المرءُ، ومن مبدأ (إنّ بعضّ الظن إثمٌ، لكنّ بعضهُ من حسن الفطن)، في فتح المجال الجوي العُماني أمام الطائرات المدنيّة الإسرائيلية، بعد يومٍ من زيارة الأسد السلطنة، وفي توقيع مذكرة تفاهم بقيمة 500 مليون دولار لتعزيز التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة والسلطنة أيضًا، مؤشّرًا على تفاهماتٍ بنكهاتٍ جديدة وطعومٍ ومميّزة.
يُصرّ الأوروبيون، حتى اللحظة، على لاءاتهم الثلاث، لكن شرخا بدأ يتّسع في الموقف الأوروبي بين دولٍ، مثل إيطاليا وإسبانيا، تريد طيّ الصفحة وإعادة العلاقات مع نظام الأسد، وبريطانيا وألمانيا وفرنسا التي تجد في ذلك خروجًا على المنطق، وانتصارًا لروسيا التي يحاربها الأوروبيون بغالبيتهم العظمى في أوكرانيا. ينتظر الجميع استقرار الموقف الأميركي الذي لا يخلو من شدّ وجذب بين الإدارة الديمقراطية التي علّقت العقوبات ستة أشهر، ومجلس النواب (ذي الغالبية الجمهورية) الذي تُطالبُ لجانه وعديد من أعضائه بعدم تعويم الأسد، فقد أصدر يوم 27 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) قانونًا منفصلًا تحت عنوان “استجابة لزلزال تركيا وسورية”، يحضّ الإدارة على فتح المعابر بكل الطرق الدبلوماسية، وتشكيل آلية فعّالة لمراقبة المعونات المقدّمة، ودعم المجتمعات المحلية لتمكينها من الصمود.
ولكن، ما هي مقوّمات تعويم نظام الأسد، وهل فعلًا ستشكّل هذه المساعدات المقدّمة استجابة لمعالجة آثار كارثة الزلزال رافعةً للاقتصاد السوري المتهالك، وهل تغفل الدول العربية، وخصوصا الخليج صاحب القدرة الوحيدة على التمويل، عن أخطار ابتلاع النظام أية مساعدات واستثمارها مع شركائه الإيرانيين في تعزيز سيطرته؟ الحقيقة أنّ سياسة دول الخليج قد تغيّرت كثيرًا، فحتى مع أقرب حلفائها باتت تقوم على تحقيق المصالح المتبادلة، فهي تشتري الأصول من مصر مقابل المساعدات، كما تشترط على لبنان تحجيم حزب الله الذي يشارك في صراع مباشر ضدّ السعودية في اليمن. لقد ولّى زمن الدعم غير المشروط، وبات النهج الراهن لدول الخليج العربي أكثر براغماتية من قبل، فهي تسعى إلى قيادة المنطقة، ليس بالمال فقط، بل بالسياسة أيضًا.
استثمر الأسد في الزلزال، واستثمرت كلّ الدول المنخرطة في الصراع السوري فيه أيضًا
ثمّ علينا ألا ننسى وجود عقبات هائلة أمام تعويم الأسد، فإضافة إلى هول حجم ملفّ انتهاكات حقوق الإنسان الذي يحمله على كاهله وقذارته، فإنّه أثبت بما لا يفسح مجالًا للتجربة من جديد بأنّه غير موثوقٍ أبدًا، فما كان يقدّم للسوريين من مساعدات أممية لم يكن يصل إليهم، بل كان يجد طريقه فورًا لدعم قواته وقوات حلفائه. يُضاف إلى ذلك أنّ التكلفة الاقتصادية لإعادة تعويمه ستكون هائلة جدًا، ولا يمكن أن توضع آلياتٌ تضمن سير العملية في طرق سليمة وشفافة، بحيث تحقّق الاستقرارين، الاقتصادي والسياسي، ولا يمكن أن يُتصوّر من هذا النظام السماح لنصف الشعب السوري الذي هجّره عمدًا بالعودة، وهو ما ستحرص عليه الدول العربية لتفادي التغيير الديمغرافي ومنع تمكين الإيرانيين من المجتمع السوري. علينا أن نتذكّر أيضًا أنّ الشعب الذي انتفض عام 2011 ضدّ الأسد ونظامه لا يزال لديه الأسباب نفسها لرفضهما، إضافة بالطبع إلى ملايين الأسباب الجديدة التي أوجدتها حربه ضدّهم.
استثمر الأسد في الزلزال، واستثمرت كلّ الدول المنخرطة في الصراع السوري فيه أيضًا، وهذا هو جوهر السياسة القائم على المصالح، وليس لنا إلا أن نفكّر الآن ونسأل: ماذا يمكننا أن نفعل، نحن السوريين الواقفين على خطوط النار، وهل يمكننا أن نخطو خطوة واحدة إلى داخلنا، وهل نستطيع أن نلاقي بعضنا عند حافّة الانهيار لمنعه، وهل يمكننا أن نتخلّص من عقدة عدم وجود بديلٍ عن الأسد، وهل يمكننا العمل معًا لاجتياز موجة التطبيع هذه؟
العربي الجديد